حكم وأفكار ... توقيعات . فرانسوا دولاروشفوكو

حكم وأفكار ... توقيعات

تأليف : فرانسوا دولاروشفوكو       ترجمة : محمد علي اليوسفي

مشروع كلمة - أبو ظبي  2017   |   205  صفحات   |   5.28   م . ب






«ليست فضائلنا، في غالبية الأوقات، سوى رذائل مقنّعة». 

ترى، كم يحتاج المرء من اللؤم والنظرة السوداوية الى أخلاقيات أو سلوك الجنس البشري، حتى يصل الى هذا الاستنتاج الذي توصّل اليه في القرن السابع عشر، نبيل ومفكر فرنسي هو لاروشفوكو؟ صحيح أن هذه الجملة المؤلفة من كلمات قليلة لا يمكنها ان تشكل سوى سطر واحد من كتاب الحكم الذي وضعه الرجل، غير انها قادرة على تلخيصه في شكل عام، وقادرة حتى على تلخيص تلك الدروس التي استخلصها لاروشفوكو من حياته التي عاشها، ومن الخيبات التي ملأت تلك الحياة، وجعلته ينكبّ خلال العقود الأخيرة من عمره، على صوغ تلك الأمثال والعبارات التي سارت منذ ذلك الحين بين الناس، مثالاً على التهكم الذكي، والسخرية من الذات والآخرين. ونعرف، طبعاً، أن هذه الحكم أوصلت الى ذروة لغوية وأخلاقية وفكرية، نوعاً أدبياً لم يكفّ الأدب الفرنسي عن معرفته وابتكاره، لكنه عرف ازدهاراً كبيراً خلال ذلك العصر الذي عاش فيه لاروشفوكو. إذ، في ذلك العصر، زمن لويس الرابع عشر وريشيليو، كانت الحدود غير واضحة بعد بين السياسي والأديب، بين المفكر والنبيل... ومن هنا كان ذلك النوع من الأدب، الذي غالباً ما كان يتّسم بالمرارة وينتج منها. كان تعبيراً عن مواقف سياسية، وربما أيضاً عن طموحات للوصول الى الحكم وخيبات دونه. والحال أن لاروشفوكو وضع القسم الأعظم من حكمه وأمثاله هذه، انطلاقاً من خيبة مسعاه بعد المؤامرات الكثيرة، ذات الطابع السياسي، التي خاض فيها ضد ريشيليو وانهزم لينكفئ على ذاته ومجتمعه الضيق وأفكاره، مطلقاً عبارات تفيض مرارة، ينعى فيها الأخلاق والمبادئ، مؤكداً أن كل ما نفعله انما هو كذب ونفاق اجتماعيان.
عرف هذا الكتاب دائماً بكتاب «الأمثال» Les Maximes . وقد احتوى حين صدور طبعته الأولى، على 317 مقطوعة تتراوح بين المثل السائر والحكمة العميقة والتأمل الأخلاقي. وفي الوقت الذي أصدر لاروشفوكو هذا الكتاب، كان الألم يهدّه والأمراض تنخره، والخيبة شعاره الأول. وهو بعد ذلك، لم يتوقف طوال السنوات الباقية من حياته، وكانت نحو عقد ونصف العقد من السنين، عن اصدار طبعات متلاحقة من الكتاب نفسه، يضيف الى كل منها جديداً، حتى بلغ عدد الطبعات حتى العام 1678 (عام صدور الطبعة الخامسة التي اتخذت الشكل النهائي الذي وصلنا الكتاب عليه) خمس طبعات. وضم الكتاب في طبعته النهائية 507 حكم أو أمثال. واللافت ان مع صدور هذه الطبعة الأخيرة، كان لاروشفوكو بات يعتبر في باريس أديباً ومفكراً كبيراً، وهو بهذه الصفة عُرض عليه كرسي في الاكاديمية الفرنسية، لكنه رفض. وما لبث ان مات بعد ذلك بسنتين.
 يقوم مفتاح هذا الكتاب، الذي لا يزال يُقرأ ويترجم ويبني أخلاقيات أجيال وأجيال حتى يومنا هذا، على فكرة بسيطة سوداوية مفادها ان الكبرياء هي القطب الأساس المحرك لتصرفات الإنسان وأفعاله. وينتج من هذا أن الأنانية والمصلحة هما، بالنسبة الى لاروشفوكو، مصدر كل التصرفات وضروب السلوك، بما فيها تلك التي تبدو في ظاهرها نبيلة صافية منزّهة. وعن هذا الأمر يقول الكاتب: «ان الكبرياء انما هي حب الذات، وحب كل شيء آخر انطلاقاً من الذات، في رجعة الى الذات».
غير أن لاروشفوكو إذ يقول هذا، وينطلق منه محوراً أساسياً لنظرته الى البشر وأخلاقهم، لا يفوته في خضم ذلك أن يكشف عن أن دوافعه القائمة على أكبر قدر من التبصر، ليست في نهاية الأمر سلبية تماماً: فهذا الوعي المتبصّر، إذ يعبّر عنه بذكاء وحنكة باسم الحقيقة والنزاهة، انما «يكشف لدى هذا المفكر عن اهتمام بطولي بعظمة الروح»، مضيفاً أن عظمة الروح هذه انما هي تلك التي تدرك معنى التواضع الحقيقي وتجاوز الذات في الوقت نفسه، ذلك أن القيمة الكاملة والأسمى، لدى لاروشفوكو انما هي تلك التي تكمن في «ان نفعل، من دون أن يكون على فعلنا شهود، ما نكون دائماً قادرين على فعله أمام الناس أجمعين». وهذه الفكرة هي التي تضفي على تشاؤمية لاروشفوكو نبلها وعمقها، وتجعلنا غير قادرين على اعتباره مجرد لئيم متهكم، همّه الحط من جنس بشري خيّبه دائماً. وإذ يتضح هذا، يصبح في الإمكان النظر بعين أكثر تسامحاً تجاه لاروشفوكو، حين يقول لنا في الكتاب: «ان ما يسمّيه الناس فضيلة، ليس في الحقيقة سوى شبح كوّنَته أهواؤنا، وأطلقنا عليه اسماً كريماً حتى نتمكن من فعل ما نريد من دون عقاب». ولاروشفوكو في هذا السياق نفسه كان يرى أن أفعال البشر جميعاً انما تمليها المصلحة الخاصة المرتبطة لديهم بالغرور والكبرياء وحب الذات.
أما «الإخلاص» فليس - هو و «الصدق» - في رأي لاروشفوكو سوى «قناع رقيق نستخدمه في سبيل كسب ثقة الآخرين». فماذا عن «الطيبة»؟ ليست أكثر من كسل أو عجز في الإرادة. و «التواضع» في رأي صاحبنا انما هو «استسلام مزيف يستخدم من أجل اخضاع الآخرين». أما التقوى فليست في حقيقتها - لديه - سوى «استشعار لمساوئنا في مساوئ الآخرين... واستبصار ذكي بالبؤس الذي قد يمكن ان نقع فيه».
ولاروشفوكو لم يكن ليؤمن، طبعاً، بالصداقة التي ليست لديه سوى «تسوية مصالح متبادلة... وتجارة يتطلع من خلالها حب الذات الى تحقيق كسب ما». أما في مجال الحب، الذي يكرس له لاروشفوكو، الكثير من الحكم والأمثال، فإن صاحبنا يقف فيه ضد النزعات التي كان يعبر عنها معاصره كورناي الذي كان يبني الحب على مبدأ تقدير المحبوب واستحقاقه لهذا الحب. فبالنسبة الى لاروشفوكو، لا بد من التركيز على لا عقلانية الهوى الذي ليس أكثر من «سحر» لا دخل لإرادتنا فيه... ولكن حين يكون حباً صادقاً فقط. أم حين لا يكون صادقاً فيصبح تجارة أو نفاقاً متبادلاً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق