مدخل إلى التنوير الأوروبي . هاشم صالح

مدخل إلى التنوير الأوروبي

 تأليف : هاشم صالح

رابطة العقلانيين العرب / دار الطليعة - بيروت  2005   |   255 صفحة   |   8  م . ب




عرف هاشم صالح المقيم في فرنسا بكونه من أكبر المهتمين والمتبحرين بشؤون الفلسفة الأوربية وفي نظرياتها قارئا وشارحا وناقلا. ولكن ما يميزه ذلك الوعي الكبير والمتجذر عنده بالربط بين ما يحدث هناك وما يحدث هنا. بمعنى أنه يقرأ الفلسفة الأوربية وعينه على الساحة العربية. فليس هو بالمنقطع عن واقعه العربي الإسلامي الغارق في الأجواء الأوربية ككثير من العلماء العرب. على العكس تماما فالواقع العربي وإشكالاته وتأزماتها حاضرة وبقوة في كل كلمة يكتبها هاشم صالح. وقد اختار لمعالجة هذا الوضع الإسلامي العربي المتأزم والخانق أن يقرأ تجارب الآخرين في فتراتهم التي تتشابه مع فترتنا هذه، أن يقرأها لعله يعثر في ثناياها مع يمكن الاستنارة به في هذا الظلام الذي يحيط بنا. أيضا لا يمكن تجاهل تميز هاشم المهم والمتمثل بسلاسة كتاباته ووضوحها وبعدها عن التكلف وهذا مؤشر على وضوح الأفكار في رأسه وتمكنه منها.
لم يختر هاشم صالح الفلسفة الأوروبية اعتباطا بل إنه وجد بينها وبين الحالة الإسلامية شبها كبيرا واشتراكا عميقا. طبعا ليس هذا الوضع منطبقا على أوروبا الآن سيكون هذا مجحفا في حقها، بل ينطبق على أوربا في عصور النهضة والتنوير الأولى أي قبل ثلاثة قرون أو تزيد. في تلك الفترة كانت أوروبا، كما يرى هاشم صالح، تعيش في أجواء مقاربة ومشابهة لما نعيشه اليوم حيث سيطرة الأصوليات الدينية وسيادة فكر الخرافة وغياب منطق العلم.
إن لحظة التنوير الأوروبي هي ما نحتاج المرور عليه الآن. قد يتخيل البعض أن الوضع في الحالة الإسلامية أصعب بكثير من أوروبا العصور الوسطى، ولكن هذا غير صحيح، كما يؤكد هاشم صالح في هذا الكتاب، بل يمكن قول العكس فهناك من الظروف المساعدة الآن أضعاف ما كان متوافرا لتنويري أوروبا.
كل متابع لكتابات هاشم صالح يعلم أن له موقفا محددا فيما يخص قضية الحداثة وما بعد الحداثة وعي باختصار كما يلي: أوربا تعيش الآن حالة ما بعد الحداثة (ما بعد التنوير) وتنقد الحداثة بشدة وتكشف كثيرا من تجاوزاتها يمثل هذا الخط فلاسفة كبار نذكر منهم فوكو ودريدا ودولوز ومدرسة فرانكفورت في مقابل هؤلاء هناك من يقول أن الحداثة الأوروبية لم تكتمل بعد وأنه يجب السير على خطاها لإكمال مشروعها يبرز هنا الفيلسوف الأكبر في أوروبا حاليا الألماني هابرماس. يقف هاشم صالح إلى جانب هابرماس ويرى أنه يجب المحافظة على مكتسبات الحداثة والتنوير المتمثلة في قيم الديموقراطية والحريات والنظرة الإنسانية الشاملة مع تقويم اعوجاجها المتمثل في المبالغة في المادية والنهم الاقتصادية و المركزية الأوروبية وعقلية الاستعمار.
ذكر هاشم صالح في مقالة له أن لديه سلسلة من الكتب عن الفكر الأوروبي ستصدر تباعا ولعل هذا الكتاب، محل قراءتنا، يكون باكورتها وما أحوج المكتبة العربية لمثل هذه الكتب فمع الهزال الكمي للكتاب العربي، إلا أن كيفه يمثل مصيبة أكبر فما فائدة الكتاب إن لم يغيّر شيئا وما أقل الكتب العربية الداعية للتغير وما أكثر تلك المبررة للواقع على علاته وتلك التي تجرنا بكل قوتها للخلف.
التنوير الأوروبي، كما يثبت هاشم صالح، جاء كثمرة لمسيرة طويلة من العمل والتضحيات ارتفعت فيها أسهم الإنسان والعقل أحيانا ولا تلبث أن تقمعها يد التطرف والطغيان مرّات أخر. لم تتحصل أوروبا على ما هي عليه الآن بسهولة وبدون مقابل، بل كان المقابل ثمينا ولكن ما تحقق للإنسان الأوروبي والإنسان في كل مكان من بعده يستحق تلك التضحيات التي قدمت من أجله. يتتبع المؤلف في هذا الكتاب مسيرة التنوير الأوروبي في ستة فصول سنتعرض لها هنا بشكل موجز.
البداية من القرون الوسطى قرون الظلام كما يقال، دون دراسة هذه العصور وعقليتها لا يمكننا فهم الصراعات الفكرية التالية لأن هذه الصراعات كانت باختصار مع ممثلي عقلية القرون الوسطى. تمثل القرون الوسطى فاصلا بين الحضارة اليونانية والرومانية وبين العصور الحديثة. استمر هذا الفاصل ألف سنة تقريبا. يتعرض المؤلف هنا إلى أن هناك من الباحثين المعاصرين من يعيدون بعض الاعتبار للعصور الوسطى كونها لا تمثل كيانا واحدا بقدر ما كانت تحتوي شيئا من التنوع يمكن النظر إليه كإرهاص لما حدث بعد ذلك من التغير، من أبرز هؤلاء العلماء جاك لوغوف المؤرخ الفرنسي في كتابه: من أجل عصر وسيط آخر. لا يفوت هاشم صالح في هذا السياق أن يشير إلى أن العصور الوسطى قد انتهت نهائيا في أوروبا الغربية وأصبحت نسيا منسيا فإنها لا تزال مستمرة، أو متطاولة عندنا حتى الآن. وهنا يبرز هدف رئيس للكتاب يتمثل في تشكيل وعي عند القارئ العربي بما يمكن أن يربطه بين التاريخ الأوروبي وواقعه الذي يعيشه.
ما هي سمات إنسان أو عقلية القرون الوسطى يلخصها المؤلف بحسب جاك لوغوف بالتالي: هيمنة العقيدة اللاهوتية المسيحية على العقول ولم يخرج من هذا الإطار حتى الفلاسفة في ذلك الوقت كان ذلك في عداد اللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. ثانيا: صورة الإنسان المتشائم، الضعيف، الخائف من ارتكاب الخطايا والذنوب في كل لحظة، مباشرة نستطيع التفكير في المستفيد من بقاء هذه الفكرة إنهم رجال الدين الذين لعبوا على هذه النقطة كثيرا ونجحوا في ربط الناس بهم بشكل وثيق. ثالثا: الزهد في الحياة الدنيا واحتقارها واعتبارها دار العبور إلى الحياة الحقيقية، حياة النعيم و الخلود في الدار الآخرة. وهذه السمة ناتجة من التي قبلها بالضرورة. رابعا: هيمنة العقلية الرمزية أو الخيالية على وعي الناس. أو قل سيطرة الخرافة ويتضح هذا من تعلق الناس بالمعجزات وخوارق العادات وانجرافهم خلفها دون أدنى شك.
يمكن تقسيم العصور الوسطى إلى قسمين: الأول بين (القرنين الخامس والعاشر) والآخر بين (القرنين الحادي عشر والرابع عشر) القسم الثاني شهد تغيرا واضحا فقد بدأت العقلانية تدخل شيئا فشيئا عن طريق العرب وقد رافق هذا التغير البسيط والمؤثر في نفس الوقت ظهور الجامعات وتطور المدن وانتعاش التجارة. تأسست جامعة السوربون في باريس في القرن الثالث عشر وكذلك جامعة أوكسفورد في إنجلترا وجامعة بولونيا في إيطاليا كذلك أنشئت مراكز للترجمة عن العرب والإغريق. من هنا ظهرت المنهجية السكولائية (المدرسية). هذا الدخول للفلسفة الإغريقية تسبب في إحداث جدل بين اللاهوتيين بشكل رئيس ودار سؤال مهم: هل العقل والدين متناقضان أم يمكن التوفيق بينهما ؟ اختلف الناس وترافق مع هذا الاختلاف قرار لاهوتي « فتوى» من المجمع الكنسي بفرنسا سنة 1210م يحرّم قراءة كتب أرسطو في أي مكان. وكعادة التحريم لا يحل إشكالا فإن إجابة قوية هي التي سادت وسيطرت على الساحة، كانت هي إجابة توما الإكويني (1225- 1274) فقد عقد مصالحة كبرى بين المسيحية من جهة والفلسفة اليونانية والأرسطوطاليسية من جهة أخرى. كانت هذه الإجابة تقوم على الفصل بين دائرتين للمعرفة والنفوذ: دائرة اللاهوت المتموضع داخل المجال الديني، ودائرة الفلسفة والعلم التابعة للمجال العقلي. يبدو أن هذا الجواب قد أجل الاصطدام بين المجالين ولكن هذا ما سيحدث لاحقا.
الفصل الثاني: (انبثاق الأزمنة الحديثة) يمثل الخطوة التالية في مسيرة التنوير الأوروبية. إنه عصر النهضة والإصلاح الديني في أوروبا ويمكن القول مع المؤلف أن أوروبا بدأت تتجاوز العالم بأسره في هذا العصر. أوج هذا العصر كان في القرن السادس عشر بلا شك وإن كانت إرهاصاته قد بدأت قبل ذلك بقرنين تقريبا وانتهى هذا العصر مع الثورة الغاليلية وفلسفة ديكارت التي دشنت لعصر الحداثة الأوروبي. كان عصر النهضة مرحلة متأرجحة بين القرون الوسطى وعصر الحداثة. شهد هذا العصر ثلاثة أحداث جسام غيرت وجه أوروبا والعالم من خلفها: أولا: الاكتشافات البحرية والجغرافية الكبرى التي قام بها الأسبان والبرتغاليون والتي أدت إلى ازدهار الحياة الاقتصادية في أوروبا. وثانيها: تطور النزعة الإنسانية (هيومانيزم Humanisme) وانتشارها في مختلف أنحاء أوروبا بفضل اختراع آلة الطباعة. وثالثهما: الإصلاح الديني الذي كان الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر والذي جاء مع مارتن لوثر.
يفرد المؤلف في هذا الفصل قسما خاصا للحديث عن «بيترارك» (1304- 1374) بوصفه مدشن الحركة الإنسانية والنهضوية في هذا العصر ويتبعه بقسم خاص طويل عن «إيراسموس» (1469 - 1536) بوصفه الشخصية التي جسدت مثل عصر النهضة والنزعة الإنسانية في أرقى تجلياتها. ثم يختمه بحديث مؤثر عن «جيوردانو برونو» شهيد الأصولية المسيحية والذي انتهت حياته حرقا عام 1600 وذلك لأنه «تفوه بكلام فيه تجديف وزندقة» بحسب محاكم التفتيش. هذا التجديف والزندقة يتمثل في قوله بأن الأرض ليست مركز الكون وأن الأرض تدور حول الشمس. هنا نرى شيئا من ثمن التنوير.لقد كان باهظا.
الفصل الثالث المعنون ب«أزمة الوعي الأوروبي والقطيعة الإبستمولوجية الكبرى». هز العلم مع نيوتن ومن قبله مع ديكارت وغاليليو وكيبلر الوعي الأوروبي وشككه في نفسه. لقد قال باختصار أن تصورات الدين والكنيسة خاطئة في عدة مجالات أبرزها النظرة للكون وقوانين المادة. القطيعة الإبستمولوجية هنا تعني أن الوعي الأوروبي قطع بشكل واضح مع التصورات والمقولات القرن أوسطية واستبدلها بالعلم والفلسفة الحديثة. لقد بدأ تفكير جديد وعقلية جديدة.
تصدى التنويريون في هذا العصر للكنيسة ولرجال الدين وبدأوا يصرحون بأفكارهم بالتدريج. بدأت براعم التنوير مع ديكارت ولكنها لم تمس الدين كان موقف ديكارت أقل جرأة في هذه الناحية إلا أن سبينوزا قد قام بهذه المهمة مما عرضه لمطاردة المتعصبين اليهود والمسيحيين. وكان رواد التنوير، الذين سيأتي الحديث عنهم، قد استفادوا من انقسام المسيحيين إلى كاثوليك وبروتستانت، حيث قدم البروتستانتيون تسامحا أكبر مع أفكار التنوير. كما استفادوا من الممالك الأكثر ليبرالية خصوصا في هولندا.
الفصل الرابع: خصصه هاشم صالح للحديث عن روّاد التنوير الأوائل. ويتحدث عن ثلاثة شخصيات هامة هي (بايل، غاليليو، بوسويه). بيير بايل الفرنسي (1647 - 1706) يفرد له هاشم صالح عدة صفحات رائعة تعطيه اعتبارا كبيرا وهو الغائب في مقابل التنويريين الكبار. انتقل بيير من البروتستانتية إلى الكاثوليكية ولكنه لم يلبث أن يهجر المذاهب كلها ويكرس حياته للنقد والتعصب المذهبي حين لجأ لهولندا المتسامحة أكثر. يخلد كتاب «القاموس النقدي والتاريخي» ذكرى بايل بوصفه غذاء للتنويريين اللاحقين فولتير وديدرو وروسو.
محاكمة غاليليو أثرت كثيرا على موقف الكنيسة فقد اكتشف الناس بعد فترة أن حكمها ضد غاليليو كان متعسفا وجائرا وأنها كانت على خطأ وكان هو على صواب فقد عرف الكل أن الأرض تدور وتدور ولا تتوقف عن الدوران رغم رأي الكنيسة وجبروتها. كان بوسويه ممثلا للأصولية الكاثوليكية وساهم في تعطيل حركة التنوير ولو لفترة قصيرة.
يتحدث هاشم صالح بعد ذلك تحت عنوان «كيف يظهر الفلاسفة الكبار في التاريخ» عن سبينوزا في اثنتين وثلاثين صفحة لا يمكن القول عنها إلا أنه تمثل حاجة من حاجات المهتم بالفكر والثقافة ولا يمكن الحديث عنها هنا خشية اختزالها وتشويهها.
الفصل الخامس: خصصه المؤلف للحديث عن «فولتير» (1694 - 1778) بوصفه منارة التنوير الأوروبي والشخص الذي كرس حياته كلها لمحاربة التعصب الديني.
لم يعش فولتير الثري جدا في برجه العاجي بل مثل دور المثقف المنخرط في الحياة العامة والمنشغل بقضايا الناس. دخل فولتير صراعات كبرى مع المتطرفين المسيحيين على مستوى الفكر أو على مستوى النضال من أجل حفظ حقوق الأفراد خصوصا أولئك المنتمين للأقليات كالبروتستانت في فرنسا. كانت حياة فولتير مدا وجزرا مع التعصب والسلطة، خرج من فرنسا طلبا للحرية وعاد إليها من أجل نشر الحرية. تسبب في صداع مؤلم للمتطرفين والتقليديين. أمروا بإحراق كتبه ومنعها ولكنه عاد وانتصر.
الفصل السادس: خصصه صالح للحديث عن الدين في عصر ما بعد الحداثة. وتعرض لظاهرة عودة الدين للساحة ولكن ليس بشكله القرن أوسطي بل بوصفه الدين المتوافق مع الحداثة. وحقيقة لقد كان هاشم صالح وعلى مدار الكتاب حريصا على طمأنة القارئ العربي على أن التنوير والحداثة ليست بالضرورة ضد الدين. صحيح أنها ضد التعصب والتطرف ولكنها ليست ضد الدين المتسامح الإنساني الذي يعزز قيم المحبة والأخوة والتعاون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق