أسطورة دون جوان . جان روسيه

أسطورة دون جوان 

تأليف : جان روسيه 

الهيئة السورية العامة للكتاب - دمشق  2012   |   290  صفحة   |   2.51  م . ب




إن السؤال الذي يطرح نفسه في المقام الأول هو التالي: أنستطيع عند الحديث عن دون جوان أن نتكلم عليه باعتباره أسطورة؟ فمن المهمّ أن نطرح هذا السؤال لسببين: انعدام اليقين في مفهوم الأسطورة ذاته، وميوعة هذا المفهوم، والموقع الخاص لتلك القصة التي تُروى منذ أكثر من ثلاثة قرون عن مغوي النّساء، والضيّف الحجري، إن الجواب، وسنرى ذلك، سيتردّد، قبل أن يتحدّد، بين الإيجاب والنّفي.
وهل يحقّ لنا أن ندرج دون جوان في طائفة الأساطير التي صنّفها وحدّدها إيلياد، وليفي شتراوس، أو فيرنان، بين أساطير المجتمعات القديمة تلك، التي يعود نشوءُها إلى الأصول الأولى، «إلى زمن البدايات المقدّس»، قبل أي عصرٍ تاريخي؟ إلاّ أنّ دون جوان قد وُلد في العصر التاريخي، في العصر الحديث، وله تاريخه المحدّد، ونحن نعرف أوّل نصٍّ عنه، وهو النصّ المرويّ «الصحيح» الذي يُفلت من متناول علماء السُّلالات، وبهذا المعنى، لا ينتمي دون جوان إلى أسرة الأساطير.
ولكن هاكم ما لعلّه يتيح لنا أن ندخله في جملة هذه الأساطير؛ إنه مبنيَّ على الموت، على الحضور الفاعل للميت، لذلك التمثال الذي دبّت فيه الحياة، وهو بطلُ المسرحية الحقيقي، والوسيطُ إلى ما وراء هذه الحياة، وعاملُ الارتباط بالمقدّس. ولكنّ هذا ليس كلّ ما في الأمر؛ فالميت الذي يُهينه الحي حين يدعوه للعشاء، هذا الميت، الذي يعود ليقتصّ، يخرج من الحكاية الشّعبية الواسعة الانتشار في الغرب المسيحي.
وهكذا، فإن أساساً أسطورياً دفيناً يطفو في دون جوان الذي وُلد عام ١٦٣٠. وتحت هذه الترّبة الخرافية، قد نستشف جوهراً أكثر عمقاً، هو بقايا عبادات الموتى القديمة، مع ما فيها من تقديم لقرابين الطعام: فنحن نعرف أهمية الوليمة وتبادل الطعام في السّيناريو الدّونجواني، ونرى أنه بذلك يتقرّب من الدائرة الأسطورية، التي كان يبدو أنه قد ابتعد عنها في بادئ الأمر.
بالإضافة إلى ذلك، فليس أمراً عديم الأهمية أن يتدخّل الميت المقتص، متّخذاً لا شكل شبحٍ، أو هيكلٍ عظمي، كما هو الأمَر في الحكايات الشّعبية، بل شكل تمثال: فيتمُّ بصورةٍ أفضل إبرازُ «العجيب» بهذه الروّحات والجيئات، التي يقوم بها الشيءُ الجامد، ذلك الخليطُ المثيرُ من الحجر والفكر. ويضاف إلى ذلك موضوعٌ مقاربٌ: وهو خرافة التمثال المخطوب، الذي جاء ليطالب بمخطوبته ليلة زفافه، وما «فينوس ديل» إلاّ إحدى تطبيقاتها الأدبية.
وها كم بالمقابل ما سيبعدنا من جديد عن تلك الدائرة الأسطورية: يقول ليفي شتراوس: «ليس للأساطير مؤلِّف». وإنما لها قصّةٌ طويلة شفهية سابقةٌ للتّاريخ، وهي تحيا خلال رواية مُغفلةٍ. ولكنّ لدون جوان مؤلِّفاً، ولولاه لم يأتٍ دون جوان إلى الوجود. وقد تأكّدت روايته الأولى في نصَّ مكتوب. فهل نسلّم بأن الوثيقة التي تصدر عن ممتهنٍ للكتابة يمكن أن تشكّل شهادة ميلاد أسطورة؟ لا شيء أكثر مخالفة من هذا للتعريف المقرّر المتداول عموماً.
ومع ذلك، تُلاحَظ من ناحيةٍ أخرى واقعةُ تاريخيةٌ في هذا التعريف: وهي أن الأمر لم يطل بدون جوان ليستقلّ عن مبدع روايته، وعن النصّ المؤسّس له؛ فقد تمّ نسيان تيرسو ومسرحية المغوي الأصلية. والذين تناولوا دون جوان فيما بعد لم يرجعوا إلى تلك المسرحية؛ غير أن دون جوان لم يقع في النسيان، واستمرّ يحيا حياة مستقلّة، وينتقل من عملٍ فني إلى عمل فني، ومن مؤلِّف إلى مؤلِّف، كما لو أنه يخصّ الجميع، ولا يخصّ أحداً بمفرده. وهنا نتعرّفُ سمةً خاصة بالأسطورة، وهي غفليتها المرتبطة بسلطانها المستمر على الوجدان الجماعي؛ وهذه الغُفلية تتماشى مع قابليّتها لأن تولد على الدوام، وأن تُبعث من جديد وهي تتحوّل. إنّ لها مرونة، كما أنها ملكٌ مشاعٌ: فهي من ناحية، قصةٌ مفتوحة بشكل كاف، وقابلة لنفاذ ظروف الزمان والمكان، بحيث تتقبّل التحوّل، دون أن تفقد هوّيتها الأولى، ومن ناحية أخرى، فهي ملكٌ عام يتملّكه كل الناس دون أن يستنفدوه.
وتوجّهنا هذه السّمة الأخيرة إلى ناحية التلقيّ: أقصد إلى وظيفة النموذج، إلى التأثير المثالي الذي تمارسه الأسطورة في المجتمعات التقليدية، حيث يندمج كلُّ متلقٍّ بشخصيّة البطل والإله، فيعيش من جديد المأثرة الصانعة للأسطورة، أو يلعب ثانية دوره فيها، وذلك ليتبين وضعه الخاص في الزمن الحالي، فما هي الحال بالنسبة لدون جوان؟ بمن سيندمج المشاهد؟ هل يندمج بضحايا دون جوان الفاسق أم بأصحاب المعارضة والقصاص؟ أم يندمج بالبطل نفسه؟ وفي هذه الحالة، هل يأخذ بوجهة نظر الجاني الذي أدانه القرن السّابع عشر؟ أم بوجهة نظر العشيق الفاتن، والمتمردّ الذي مجدّته الرومانسية؟ أم بوجهة نظر المغرَّر الذي يهزأ منه عصرنا؟ فهناك سلّمٌ كامل من الحلول المختلفة وحتى المتعارضة. تتنوّع حسب النصوص المروّية والعصور، وتبعاً للفن الأدبي، والإخراج المسرحيّ، وتوقّعات الجمهور. وهذا عامّل هام من عوامل التنويعات التي ستصنع من البطل نموذجاً سلبياً حيناً، وإيجابياً حيناً آخر.
ومع ذلك، فهناك وجهٌ سلبيٌ لهذه المرونة، لذلك التأثير الطويل الأمد في المخيّلة الجماعية، وهو ما يُصاب به دون جوان من البلى والانحطاط فيُقال: دون جوان، ودونجوانيه، وما هذا سوى السّقط المتبقّي، والنتاج المبتذل لذلك الانحطاط. فماذا بقي من النموذج الأصليّ، من الخاطئ، من الفاسق، ومن مجابهاته للسّماء، في شخصية السيّد المتأنّق في القرن الثامن عشر، وزيرِ نساءِ نهاية القرن التاسع عشر؟ إن الجوهر الأسطوري قد تبخرّ، وامّحت الهوّية الأولى بتأثير التفكّك. تفكّك الكل الأوّلي المكوّن للأسطورة وانفصل البطلُ عن السيناريو الإجمالي حين استأثر وحده بالاهتمام، وفَقَدَ الارتباطَ بالضيف الحجري، وبالحلّ الخارق للطبيعة؛ ماتت الأسطورةُ، وصار موتُها دليلاً على أنها قد نجحت أيضاً، ونجحت نجاحاً فائقاً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق