التمييز الموسوي أو ثمن التوحيدية . يان أسمان

التمييز الموسوي أو ثمن التوحيدية

 يان أسمان

دار الجمل ـ ألمانيا  2006   |   236 صفحة   |    5.94  م . ب




يعتبر عالم الآثار المصري والمؤرخ الألماني (يان أسمان) في كتابه، التمييز الموسوي أو ثمن التوحيدية، أن أصل الحضارة الغربية مستمد بالدرجة الأولى من الحضارة الفرعونية المصرية والتي وصلت إلى الغرب من طريق الحضارة اليهودية ـ المسيحية والحضارة الإغريقية من جهة اخرى. يستدل أسمان على فكرته هذه بالاشارة الى ان جوهر حضارة التوراة والانجيل مقتبسة من الحضارة المصرية.
ويرى ان موسى رجل مصري تربّى وترعرع في احضان الحضارة المصرية، وكانت ثقافته وحكمته مصريتين بالكامل. ويبين ان الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، تمتلك مأثورا مشتركا ومفهوما متقاربا عن الله.
لا تتشارك فقط في مسألة الاعتقاد بإله واحد، إنما بالكثير من الطقوس والعادات والتقاليد التي انتقلت من جيل الى جيل، مما يؤكد تواصل هذه الديانات في جوهر المبادئ والدعوة. ومع ذلك فإن تاريخها مطبوع بطابع الصراع، لا يزال له أثره إلى يومنا هذا. فالديانات الثلاث تشترك في أنه كان عليها في بداياتها أن تحارب محيطها الوثني المتعدد الآلهة.
مع مرور الزمن نقلت مفهوم الوثنية إلى الديانات المجاورة لتحديد حقيقتها في كل مرة في مقابل لا حقيقة للآخرين. فالأمر هو بين الحق والباطل في الدين، بين الإله الحقيقي والآلهة المزيفين، وبين العقيدة وعدم وجودها، مما يعني ان التمييز الموسوي هو في الحقيقة تمييز بين الاديان التوحيدية التي لا تعترف سوى بإله واحد فقط، وبين الاديان القديمة المتعددة الآلهة والوثنية.
يبين اسمان ان العهد القديم لم يحتو على دين واحد، وانما احتوى على دينين. الدين الأول لا يختلف تماما عن الأديان الأولية لعالم ذلك الزمان، أي عبادة إله أعلى يكون مسيطرا على عالم الآلهة.
اما الدين الآخر فيتخذ موقفا صارما ضد الأديان الأخرى المحيطة به، وذلك بمطالبته بعبادة إله واحد وتحريمه رسم صورة له. نجد هذين الدينين في الإنجيل العبري جنبا الى جنب، بالرغم من انهما يشكلان تناقضا مليئا بالتوتر، لان أحدهما يهدف بالضبط إلى الشيء الذي يرفضه الدين الآخر.
يشبه الإنجيل العبري في احتوائه على شكلين مختلفين للدين صورة لغزية. واحد متعدد الآلهة والآخر توحيدي، وواحد يتجه نحو العالم والآخر ناف له، وواحد دين حضارة والآخر دين كتاب. ولم يدرك علماء اللاهوت وحدهم هذه الازدواجية.
ومن الأمثلة البارزة على هذا الموضوع بوجه خاص كتاب (موسى والتوحيد) لفرويد، اذ يميز بين شخصيتين لموسى، شخصية مصرية وأخرى صحراوية.
واسمان لا ينادي بالرجوع إلى الأسطورة، ولا بالرجوع الى الدين الاولي، بل انه لا ينادي بأي شيء على الإطلاق، وانما يحاول فهم ذلك فحسب.
فرضية اسمان هي ان التمييز الموسوي جاء بتجديد ثوري في تاريخ الأديان. اذ يعتبر اسمان ان التوحيدية شكلت ثورة في المفاهيم والقيم العالمية، وتتركز ابرز إنجازاتها في اللاهوت السياسي القائم على مثلث الأخلاق والعدالة والحرية، وتجد الأخلاق ترجمتها في التوحيدية الإنجيلية من خلال الوصايا العشر.
كما يولي الإنجيل اهمية كبرى لقضية العدالة. اما قضية الحرية، فتحتل موقعها من خلال (سفر الخروج)، حيث يمثل خروج بني إسرائيل من مصر صراعا بين العبودية والحرية. وتظهر التوحيدية في تأسيسها، في التصوير القصصي للخروج من مصر كحركة معارضة مسندة من قبل الإله.
وفي الوقت الذي يتحرر فيه الإنسان من فرعون واضطهاده المذل، تتحرر الألوهية وسلامتها من تمثيله السياسي، لتصبح سلطة خاصة بالاله فقط.
لا يعنى اسمان بالتمييز الموسوي تحولاً تاريخيا، وانما بالأحرى حدثا او لحظة، طالما استعمل في واقع الحياة العملية، على ان التحول نحو التوحيدية، يرتبط بمطالبه الاخلاقية وتأكيده على مداخل الانسان وميزته ك(دين ابوي)، بموقف فكري جديد وروحية جديدة. وهذا التحول هو عبارة عن تحول لصورة العالم وبالأخص لأحوال وظروف العالم الإنسانية.
ويعتبر اسمان ان التمييز الموسوي لم يكن حدثا تاريخيا غير العالم الى الأبد، وانما فكرة تنظيمية، تطور تأثيرها في تغيير العالم في مسار مئات بل آلاف من السنين على شكل تدريجي.
تنص إحدى فرضيات كتاب اسمان عن موسى، التي أدت الى معارضة شديدة بوجه خاص، على ما يأتي: كانت كراهية الساميين في أصولها المصرية المبكرة هي كراهية التوحيدية.
وكانت التوحيدية في بدايتها موجهة ضد تأليه الكون، الذي يحتوي ضمنيا على تأليه السلطة.
وتستند هذه الفرضية على أفكار آثار الذاكرة الخفية في تاريخ التوحيدية العائدة الى اخناتون، اي قبل نشوء التوحيدية النبوية في الإنجيل بزمن طويل.
يبحث اسمان عن (آثار الذاكرة) لمأثورات الديانة التوحيدية. ويصف التطور التاريخي المتبادل بين المراحل، التي طرأ فيها تطرف جديد على التمييز الموسوي، والمراحل، التي تصبح فيها الألوهية الكونية سارية المفعول ثقافيا من جديد. وهذه المراحل هي مراحل النهضة الإنسانية، التي يَطَّرِد ظهورها في الديانات التوحيدية الثلاث.
ويتعلق الأمر حسب علم النفس الثقافي الفرويدي بعودة مقومات ثقافية تم إبعادها في فترة سابقة. إذن، فالأمر يتعلق عند أسمان بعمل تذكيري، يظهر المُبعد إلى النور، وذلك من أجل الانشغال به، و(التسامي به) بالمعنى، الذى أراده فرويد. يرصد الكاتب مسار تكوّن التوحيدية من خلال التحول من الأديان الأولية إلى الأديان الثانوية.
فالأولية قائمة على تعدد الآلهة، فيما تكونت الاديان الثانوية من طريق الوحي وعلى اشلاء الاديان الاولية ومحاولة الانفصال عنها. ترتّب على انتصار الاديان الثانوية قيام حضارات واديان جديدة تشترك خصائصها في التوحيدية والكتب المنزلة. ونجم عن انتصار التوحيدية مفاهيم وعقائد وممارسات تجاه الاديان الاخرى. نشأت مقولة الحقيقة المطلقة الموحى بها، فباتت (حقيقة العقيدة).
اتخذت التوحيدية موقفا معاديا من الاديان الاخرى فصنفتها في دائرة الكفر والوثنية، ورأت ان ما تحويه من تعاليم زائفة وخرافات وسحر، تقع كلها في دائرة الباطل الذي تجب محاربته ومطاردته. وقد اثار هذا الموقف قضية نقاشية حول مسألة القبول بالتعددية والتسامح، ورأى بعض النقاد ان موقف التوحيدية المعادي للأديان والآلهة يفتقد عنصر التسامح والقبول بالآخر، فيما تتسم تعددية الاديان والآلهة بالرحابة وقبول التنوع في الحياة الاجتماعية والسياسية.
بل ان بعض النقاد يذهب الى ان التمييز الموسوي اسس لمعاداة السامية من خلال عدم التسامح والانعزال عن سائر الاديان الاولية.
كما تتميز التوحيدية بالدعوة الى تحطيم الصور ومنع عبادتها، إذ لا يجوز تصوير الاله البتة، ذلك أن الصور تعطي ترابطاً بين الانسان والآلهة، ولذلك ترفضها التوحيدية انطلاقاً من رفض مذهب تعدد الآلهة، يفهم التصوير على انه شكل من اشكال العبادة، ولا يجوز تصوير اسياد هذا العالم، لكي لا يتورطوا في عبادتها. يرى فرويد الاختراق الحاسم او التقدم في الروحية بتحريم الصور. لقد كان معنى هذا التحريم الموسوي اختراقا لعالم جديد، ينفسح فيه الحيز الجديد للروحية.
حتى ان الفيلسوف الالماني كانط وجد تحريم الصور اهم ما في اليهودية، ويذهب بالقول : ربما لا يوجد مكان اسمى في تشريع اليهودية غير الوصية القائلة: عليك ان لا تعمل لك صورة، ولا اي تشبيه، لا بما يتعلق بالسماء ولا بما يتعلق بالارض ولا تحت الارض.
إن التمييز الموسوي يجب، وهذه مرافعة أسمان الأخيرة، أن يتخذ (موضوع تأمل وإعادة تحديد بصورة متواصلة إذا أريد له أن يبقى قاعدة للتقدم في الإنسانية).
هذا بينما اشار سيغموند فرويد وتوماس مان بأن التوحيدية هي (تقدم في الروحية) ليس لأنها جاءت عن طريق الوحي، وانما لأنها تحمل الأسس الانسانية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
لقد لخص فرويد العواقب النفسية التاريخية للتوحيدية بصيغته المعروفة بالتقدم في الروحية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق