التمويه في المجتمع العربي السلطوي .. قراءة نفسية اجتماعية للعلاقة بالذات و الآخر . محمد عباس نور الدين


التمويه في المجتمع العربي السلطوي .. قراءة نفسية اجتماعية للعلاقة بالذات و الآخر

تأليف : محمد عباس نور الدين

المركز الثقافي العربي -  الدار البيضاء  2000   |   180  صفحة   |   2.45  م . ب




يقدم الدكتور هشام شرابي لهذا الكتاب بقوله: "التمويه والكذب يلتقيان في هدف واحد هو حجب الحقيقة، لكنهما يختلفان في أسلوبهما، ففي الكذب تنفى الحقيقة وتستبدل بكذبة، أما في التمويه فالحقيقة لا تنفى، ولا تظهر بشكل كذبة، بل تظهر بشكل حقيقة أخرى تدعي أنها الحقيقة الصحيحة".
ويحاول المؤلف، وهو كاتب لبناني مقيم في المغرب، وأستاذ بالمعهد الملكي لتكوين الاطر، أن يكسر حلقة التمويه المفرغة على المستويين الفردي والاجتماعي.
يتحدث المؤلف في البداية عن المجتمع العربي السلطوي والتمويه، فيراه مجتمعاً يفرغ العلاقات الاجتماعية من محتواها الإنساني، ويجعل منها علاقات بين أقوياء وضعفاء، وحتى الضعفاء يتحولون إلى أقوياء بالنسبة لمن هم أضعف منهم، وبذلك يكون الجميع ضحية الأقوياء والضعفاء لأنهم فقدوا قدرة التعامل الأفقي او الإنساني التي تقوم على الاعتراف بالآخر على أساس الحرية والمساواة. فقد أفرز المجتمع السلطوي شخصيات ازدواجية تبدي استعداداً للخضوع والتبعية من جهة، وتظهر ميلاً عدوانياً من جهة اخرى، فالقمع الذي يتعرض له الفرد في هذه الطبقات يحدث لديه توتراً نفسياً لا يستطيع ان يتخلص منه بتوجيهه إلى مصدر التوتر نفسه وإنما يسقطه على الآخرين من أمثاله وبدرجة مبالغة من العنف احياناً. ويؤكد المؤلف أن ممارسة الاستبداد في المجتمع العربي الأبوي تبدأ من الاسرة فالمدرسة فالجامعة فالعمل، وهذا كله ينتج شخصيات قلقة تعاني من عدم الثقة بالنفس وضعف الشعور بالمسئولية، لأن مواقف هذه الشخصيات مرتبطة دائماً بمواقف الآخرين.
 ويبين المؤلف ان المجتمع الذي تسود فيه الشخصية السلطوية لا يسمح بانتشار الموضوعية في التفكير والتوازن في السلوك، اذ تنتشر الاحكام المسبقة والقوالب الفكرية الجاهزة التي تعفي الفرد من المواجهة الموضوعية والعقلية. ثم يتحدث المؤلف عن التمويه بوصفه تعزيزاً للايديولوجية الابوية السلطوية، ويبين ان الطفل العربي يعيش واقعاً يحاصره ويتعامل معه من خلال مفاهيم جاهزة لا تعبر اي انتباه لرغباته الحقيقية. وهذا ما يجعلهم قليلي الفرح محملين بالهموم والقلق، والحقيقة ان القمع الذي يعيشه الطفل ما هو الا نتيجة للقمع الذي يسقطه المجتمع العام على الاسرة بقصد التدجين والترويض.
ويتحدث المؤلف عن بعض الآباء الذين يعتقدون ان حبهم لأبنائهم هو مبرر كاف لممارسة القمع تجاههم، وهذا أمر مرفوض لان حبهم لابنائهم يجب ان يمارس في الواقع وفي جو من الاطمئنان المدعوم بالوعي وبمعرفة سيكولوجية الطفل والحقائق المتعلقة بتنشئته الاجتماعية. وينتقل المؤلف للحديث عن المساومة على الحرية والتخلي عن التلقائية اللذين يعدان من افرازات التمويه وهو يحاول ان يحلل بعض الظواهر في مجتمعنا من خلال ردها إلى التنشئة الاسرية، ويتساءل المؤلف عن السبب الذي جعل الانسان العربي يبدي تمسكاً قوياً بمعايير السلوك التي حددها المجتمع في الوقت الذي يبدي نزعة فردية تتعارض مع ما يظهره من التزام بالمعايير الاجتماعية، ويرد المؤلف هذا السلوك إلى سلسلة من التناقضات لا يمكن فهمها الا في ضوء الايديولوجية التي تسود المجتمع العربي والتي تفرض انماطاً سلوكية على صعيد الفرد والجماعة. فالطفل العربي قد تعود ان يتخلى عن تلقائيته من اجل مسايرة الآخرين، كما ان المجتمع السلطوي يزيف الاتصال بين الافراد لانه يجعل ذلك منوطاً بقوالب فكرية وسلوكية جاهزة لا يجوز اعادة النظر فيها، وهذا ما يفقد الانسان العربي قدرته على الاتصال العفوي بالآخر، ويجعله يعيش عزلة تؤدي به إلى تضخم في الذات حتى تصبح ذاته المتضخمة غير قادرة على الاعتراف بمشروعية وجود الآخر على أساس الحرية والمساواة.
 لقد استفادت المجتمعات السلطوية من فكرة المساومة والمساومة على الحرية كثيراً، فالمثقف الذي يجد نفسه مهدداً بعيشه وعيش ابنائه ومستقبله بات يقبل المساومة بحجة انه يساير في سبيل الوفاء بالتزاماته تجاه نفسه وأسرته، وقد يتمسك بشعارات التغيير الا انه يستفيد من الواقع الذي يدعو إلى تغييره،أو انه يضطر إلى الهجرة فيصبح خارج اللعبة كلها.
ثم يتحدث المؤلف عن التمويه وسوء الظن، ويستهل كلامه بعبارة لمحمد عبده يقول فيها: اذا صدر عن انسان قول يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الايمان من وجه واحد يجب حمله على الايمان ويرد المؤلف ظاهرة سوء الظن إلى الطريقة التي يربي فيها المجتمع السلطوي ابناءه اذ يعوّد الطفل منذ الصغر على النظر إلى الطبيعة نظرة شك وارتياب فهي مصدر تهديد دائم له، وامام انحسار التفكير السببي والعقلاني في فهم الطبيعة يأتي التفكير الغيبي كبديل للتفكير في فهم الطبيعة وتنظيم علاقة الانسان بها قد تكون مصدر ايذاء له، كما ان الطفل يحذر من الاحتكاك بالآخرين او بالاشياء المحيطة به لانها مصدر خطر وايذاء، ويشير المؤلف إلى كثير من الدراسات التي تربط بين انحراف الاحداث وشعورهم بتبخيس الذات وضعف الثقة بالنفس والخوف من الطبيعة ومن العالم الخارجي بصفة عامة.
ثم يتحدث المؤلف عن الخرافة التي يرى فيها وسيلة التمويه المفضلة للمجتمع السلطوي، ويعيد المؤلف ارتباط الانسان بالخرافة إلى مرحلة الطفولة الاولى، فالطفل في هذه المرحلة يرتبط ارتباطاً قوياً بأمه، وبما ان المرأة العربية من اكثر الشرائح الاجتماعية التي تتعرض للاستبداد الاجتماعي بحكم تبعيتها للرجل والنظرة الدونية لها فهي اكثر ميلاً للخرافة التي ترى فيها وسيلة تحاول بها التخفيف من وطأة المستقبل. ويبين المؤلف ان التعليم وحده لا يكفي للقضاء على التفكير الخرافي والاسطوري اذ لابد من تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للإنسان العربي حتى يتخلى عن اسلوب الفروسية في التفكير والسلوك، ويواجه واقعه بموضوعية مسلحة بالعلم. ويؤكد المؤلف ان الانسان العربي مازال يفكر بأسلوب الفروسية الذي تنفصل فيه الكلمة عن الفعل، بل ان الواقع الكلامي للإنسان العربي خلق له جواً اشبه ما يكون بأحلام اليقظة يمارس فيه مواجهاته ومعاركه ولكن بكيفية وهمية، وبذلك يتاح له ان يتحرر من توتراته النفسية وانفعالاته دون ان يكلفه ذلك التحرر الفعلي على صعيد الواقع، ويستشهد المؤلف بحادثة احراق المسجد الأقصى التي قام بها الإسرائيليون، فقد توقع الناس ان تندلع حرب جديدة بعدما سمعوا ردات فعل العرب الكلامية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وهدأت الضجة الكلامية ويسوق المؤلف مثالاً آخر على كلامه فيستشهد بظاهرة «جمال عبدالناصر» فقد تعلقت الجماهير به إلى حد التماهي أو التقمص، وشعرت تلك الجماهير بالاحباط الشديد عند موته حتى ان بعضهم كان يعتقد انه لم يمت وانه سيعود يوماً.
وينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن تمويه المثقف العربي وموقفه من المرأة ويستشهد هنا بكلام الدكتور هشام شرابي: ان قضية تحرير المرأة هو شعار وأداة تحرير المجتمع بكامله. وقد استعرض المؤلف في عرض تاريخي موجز طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل مستأنساً ببعض الشواهد والأمثلة والتحليلات ثم خلص إلى القول إلى ان احتقار المرأة واستصغارها هو احتقار للرجل باعتبار انهما يشكلان بنية واحدة يقوم المجتمع على اساسها، ويرى ان المطلوب الآن هو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص امام الجميع دون تمييز ولاسيما في مجالات التعليم المختلفة لانه مالم يتم القضاء على أمية الرجل والمرأة معاً فان مجتمعنا سيبقى بعيداً عن التقدم الحقيقي الذي ننشده.
ثم يحلل المؤلف عقدة اللغة الأجنبية التي تسيطر على كثير من أفراد مجتمعنا، ويبين ان اتقان اي لغة او اكثر إلى جانب اللغة العربية هو امر ضروري ولاسيما للمثقفين والعاملين في سلك التعليم العالي، ولكن حرص بعضهم على التحدث استخدام لغة أجنبية «جزئياً أو كلياً» في ندوات لا يحضرها الا العرب امر مرفوض ويحتاج إلى دراسة وتحليل، وهو يربط هذا الامر بالنقص الذي يشعر به العربي تجاه الأوروبي نتيجة رواسب خلفها المستعمر القديم والإعلام الغربي الحديث. ويرى المؤلف ان دفاعنا عن لغتنا هو دفاع عن الهوية التي لا يمكن التقدم من دونها، ويرى المؤلف ان علينا ان ننظر إلى هذه الهوية بوصفها هوية متجددة قابلة للتكيف مع المستجدات كيفما كانت طبيعتها. كذلك
يتحدث المؤلف عن الاغنية العربية بين التمويه والصدق، ويرى ان الاغنية العربية تكاد تقتصر على موضوع واحد هو الحب في حين ان المجتمع العربي ينكر الحب بمعناه الحقيقي، ويحاول المؤلف هنا ان يستعين بالتحليل النفسي لفهم هذه الظاهرة، فيرى ان الانا الاعلى التي تمثل سلطة المجتمع اصبحت سلطة داخلية في ذات الفرد وبلغت درجة من السيطرة بحيث اتخذت موقفاً صارماً ازاء الرغبات المكبوتة في اللاشعور التي لا يسمح لها ان تعبر عن نفسها بكيفية صريحة في مجال الشعور، وبما ان الاغنية هي مجرد تعبير عن حالة نفسية وليست ممارسة فعلية فانها لا تخضع لرقابة صارمة من طرف الانا الاعلى وبالتالي كانت فرصة للتعبير عن الرغبات المكبوتة. ويلاحظ المؤلف ان الحزن هو الطابع العام الذي يطبع الاغنية العربية مما يعكس الشعور بالضعف والعجز والانتقاص من الذات، بل ان المؤلف يتفق مع مصطفى حجازي في ان هذه السوداوية الشائعة في الأنا العربية ليست سوى وسيلة للتعبير عن الحرمان الوجودي، فقسوة الحبيب وتجاهله ليست سوى رمز لقسوة الحياة ووطأتها، وعذاب المحب يعكس عجز الانسان المقهور إزاء الطبيعة والحياة واعتباطها مما يثير حالة من انعدام الشعور بالأمن في أعماق النفس.
وخصص المؤلف فصلاً للحديث عن القراءة بوصفها وسيلة لمقاومة التمويه. ويعتبر الكتب أن ستظل دعامة للتعليم وانتشار المعرفة وهي تضفي صبغة ديمقراطية على الثقافة والفرد والنزعة الكلية نحو تطوير الذات. والمؤلف هنا يشير إلى اثر القراءة في تحرير المجتمع وتطويره، ويرى اننا بتوفير الظروف الملائمة لانتشار القراءة في المجتمع نتيح للافراد الاطلاع على افكار الآخرين ورؤاهم وتجاربهم وبذلك نعدهم لممارسة الديمقراطية والتعايش بسلام مع الاخرين على الرغم من الاختلاف معهم في الفكر والرأي. وهذا ما يجعلهم يعيشون حياة متوازنة منتجة، وبهذا تكون المعركة من اجل الديمقراطية هي أيضاً معركة من اجل التغيير، فالقراءة ستؤدي إلى الوعي الذي سيتسلح بالفكر النقدي المؤدي إلى تغيير الواقع وتجاوز سلبياته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق