الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر .. دراسة بنائية مقارنة . خلدون حسن النقيب

الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر .. دراسة بنائية مقارنة

تأليف : خلدون حسن النقيب

مركز دراسات الوحدة العربية  -  بيروت  1996   |   415  صفحة   |   11.88  م . ب



مع ان ظاهرة"الدولة التسلطية"تمثّل السمة الاكثر نشوءاً للنظم السياسية العربية مهما تعددت اشكالها ومسمياتها، ومع ان هذه الدولة باتت خطراً حقيقياً على مستقبل العرب الحضاري والاجتماعي في زمن التحولات الكبرى والجذرية، فإنها حتى الآن، باستثناء بعض الدراسات مثل هذا الكتاب، لم تُدرس دراسة جدية في أبعادها كافة، ان من حيث طبيعة توجهاتها او لجهة نشأتها وتطورها وتجذرها في الارض العربية وصولاً الى سبل مواجهتها والخلاص من آفتها.
فما هي هذه الدولة وما هي ممارساتها وطبيعة احكامها وأين تقع من الدولة الديموقراطية؟
يطلق البعض على هذه الدولة اسم الشمولية او التوتاليتارية، ولكن المصطلح في شكل عام يحمل دلالات اوسع من الدلالات التي يحملها مفهوم الدولة الاستبدادية التقليدية. فالدولة التسلطية في رأي خلدون حسن النقيب، تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتداداً لسلطتها، فتحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع، وتهيمن على كل مستويات التنظيم الاجتماعي ومختلف الجماعات والقوى الاجتماعية، من خلال سن شرائع وقوانين من دون قيود او ضوابط. وهي اذ تقوم بذلك تجعل من نفسها ناطقة باسم الشعب والجماهير وإن من دون علمها وارادتها، وتماهي بين القائد الذي تحيله الى رمز تاريخي يعلو على المساءلة والمحاسبة، وبين الوطن والأمة. ومن اجل فرض شرعيتها تلجأ الى تأطير كلّي للفرد والمؤسسات باعتمادها على قوانين الطوارئ والاوامر الموقتة وفرضها بالقمع والقوة ومن خلال الاستخبارات والإعلام المقيد والمراقب. وينحصر دور الشعب آنئذ في الخضوع والطاعة والتبجيل و"الفداء بالروح والدم"بدل المراقبة والمحاسبة، ويتحول القائد من جديد، الى ناطق باسم حق مقدس معصوم، فتحرّم النشاطات المدنية او تدجّن، ويتعود الناس على الغش والتملق والوشاية، فتضيع بالكامل وتنحل استقلالية المجتمع إزاء دولة تفترسه إكراهاً واغتصاباً، وتغدو كل المؤسسات رهائن ارادة عليا تبتلع الجميع وتُسكت كل الاصوات.
ويصبح الامر اكثر خطراً وتعقيداً اذ تتسلح الدولة التسلطية بأيديولوجية عقائدية تتخذ صفة الإطلاق والشمول والعصمة لتصبح الحقيقة الرسمية حيث تعبأ تحت سلطانها وتُحتكر كل الاجهزة الرسمية، العسكرية والمدنية والقضائية.
ان الدولة التسلطية، باختصار، هي دولة مغايرة لدولة العقد الاجتماعي الحديثة بكل ما تعنيه من قيم المراقبة والمساءلة والاحتكام الى الشعب، دولة تتوغل في كل ثنايا المجتمع، تمد اصابعها في كل الاتجاهات بحيث يصبح الجميع تحت وصايتها وهيمنتها، ليس فقط أمنياً بل اقتصادياً وثقافياً وتربوياً.
هذه الدولة تتحمل مسؤولية اساسية في ما آل اليه العرب من تخلف راهن، فهي أعاقت التكوّن المواطني والقومي بإحلالها مقولة "الجماهير" بدل"المواطنين"، وبإفراغها المواطنية من مضمونها التعاقدي، مكرسة العلاقات الرعوية على حساب العلاقات المدنية والمواطنية، فأسهمت في مد أمد الاجتماع السلطاني القائم على تغلب الحاكم وتفرده بالسلطة وولاء الرعية وانقيادها، في مقابل منافع وخدمات يسديها اليها باعتبارها عطاءات لا واجبات.
وكما أعاقت الدولة التسلطية "المواطنية"، أعاقت كذلك التنمية الاجتماعية والانسانية التي لا يضطلع بها مواطن مغلوب على أمره مستبد به، بل مواطن حر مدرك لحقوقه وواجباته. فالنماء والبناء والانتاج والتقدم والنهضة لا يمكن قيامها وتصورها من دون الحرية، شرطها الاساس واللازم، كما ادرك ذلك النهضويون العرب المستنيرون، وكما شددت عليه تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة في السنوات الاخيرة.
وكذلك شكلت الدولة التسلطية عائقاً رئيساً وأساساً امام وحدة العرب القومية بتغييبها البعد الديموقراطي من المشروع القومي وتعميم التسلطية على صيغة التعامل بين الأقطار، ما أجهض المشاريع الوحدوية ووضع علامات استفهام كبرى حول مستقبل العلاقات القومية.
وكان من نتائج الدولة التسلطية و"مآثرها" غير الحميدة انحدار العالم العربي وتخلفه اقتصادياً وثقافياً وعلمياً وتربوياً حتى بالقياس الى الدول النامية.
ويبدو تأثير الدولة التسلطية اكثر نتوءاً اذا نظرنا في التخلف الثقافي والعلمي للعالم العربي نتيجة هيمنة الدولة وتسلطها
باختصار، ان الدولة التسلطية العربية تنتج الفقر والأمية بدليل التزايد المطرد في أعداد الأميين والفقراء، وهي في الوقت ذاته تهدر الطاقات والموارد بانفاقها على تعليم قاصر عن المساهمة في الانتاج العلمي والثقافي والانساني العالمي، ومهجّر للكفايات العلمية العربية. لقد فشلت في التنمية، وفي التحرير، وفي بناء المواطن الحر، وفي تحقيق حد أدنى من الاتحاديين العرب، وقد آن الأوان كي يدرك العقل التسلطي انه بمنحاه الاستبدادي المتخلف انما يسير عكس التاريخ، بينما يتحول العالم نحو الديموقراطية، حتى في افريقيا وأميركا اللاتينية على رغم كل ديكتاتورياتها الشرسة وتنوعها الاثني والديني والطائفي. هل سيبقى العرب بعيدين من الثورة الديموقراطية لأن ثمة استعصاء اثنولوجياً أثبت إرث الاستبداد في تاريخهم وأقصاهم عن رياح العصر كما تذهب اليه الدراسات الاستشراقية؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق