نقد الشر المحض . مطاع الصفدي

نقد الشر المحض 

تأليف : مطاع الصفدي  

مركز الإنماء القومي -  بيروت   2001   |    520  صفحة   |   12.93  م . ب

جزءان في مجلد واحد وبرابط واحد



سُمع إعلان "نهاية التاريخ" المتسرّب من فلسفة "هيغل" على نطاق واسع، وشغّلت الفكرة المختصين في العالم لدراستها، بين الدحض والإلغاء، والإبداء والإعادة، كعادة الأفكار المؤثرة والمفاهيم الجديدة التي تخلخل الراكد، وتشعل النقاش، وتغني المجال الفلسفي بعدة نقدية جديدة. التناولات الصحافية لفكرة "نهاية التاريخ" جاءت بمجملها بعيدةً عن المعنى المفهومي لها، وأحسب أن تناول مطاع صفدي لها في هذا الكتاب كان ثرياً، حيث راح يبحث في جذور الفكرة وكيف نبتت وعلى أيّ أرضٍ ترعرعت. لقد بذل  جهداً في محاولنه أن يتجاوز القراءات العاجلة والناجزة لمفهوم "النهاية" المتصل بالتاريخ، خاصةً وأن تلك النهاية تكونت على فترات متقطعة منذ أكثر من قرن، والتي كان آخر من بلورها كنظرية مستقلة فرانسيس فوكوياما، والتي تم تناولها في الكتابات العربية بشكلٍ سطحي وصحافي لم يتدخل إلى تخوم المعنى الذي أراده فوكوياما من ذلك الإعلان الشهير.
يتساءل مطاع صفدي ماذا تعني "نهاية التاريخ" وأي تاريخ ذلك الذي يواجه نهايته: "فإذا كان المقصود بالنهاية الحسّ العام فورياً فإن التاريخ هو مايمضي، إنه قائم على حس الانتهاء كل مافيه مكرّس للانقضاء فليس التاريخ سوى مسرح لزوال ذلك التاريخ الذي يضم كل أحداث الإنسان لكنه عالم الأحداث الزائلة بامتياز، فمايزول هو التاريخي" وصفدي أثناء استغراقه في تفسير التاريخ يلفت إلى فعل الانتهاء "إذ هناك حقاً فعل الانتهاء، إن ما مايجري هو تجديد فاعل الانتهاء عبر كل توثيق أو تدوين أو تسجيل، والتأريخ بذلك المعنى هو اصطلاح في اتجاه تغيير النهاية" ويمضي في الشرح مبيناً مفهوم النهاية في "نهاية التاريخ" فالنهاية-بحسبه- "لا تفهم كالخاتمة والحدث الأخير، بل هي انغلاق التشكيل هنا يتم الانقطاع بين مفهوم النهاية الزماني إلى مفهوم النهاية الخطابي".
ومطاع يمضي في بلورة الفرق بين النهاية كخاتمة وبين النهاية بوصفها أحد النهايات المتصلة بانغلاق التشكيل فيشرح كيف أن "المشروع الغربي المنشغل بفكر النهائية منذ حوالي قرن أو أكثر لايزال مصراً على التفكير في النهاية كخاتمة للتاريخ بشكل مطلق ... والخاتمة عبارة حيادية جرداء إلى حد والنهاية مشبعة بميتافيزيقا مايتجاوز اللسانيات، إنها ترجعنا إلى مملكة الصمت. عبارة النهاية تتمتع برنين وشغف اللامتناهي نفسه وهي في خطاب التشكيل الغربي، تريد أن تجيء لامتناهية بمايعادل الذاتية اللامتناهية التي شرعت، هي نفسها في تلفظ نفحة النهاية. هناك إذا خطاب لامتناه يتصيد هو كذلك فكر النهاية" ويصل مطاع صفدي الخطاب اللامتناهي حول نهائية التاريخ بجدلية هيغل.
وتعيد الليبرالية احتضان الجدلية الهيجلية-بحسب صفدي- مستندةً إلى مايعتبر انتصارها النهائي على تجارب الأيديولوجيات من فاشية وشيوعية من حيث إنهما محاولتان فاشلتان للخروج على مثال "الدولة الشمولية المتجانسة" فهي -الليبرالية- ترى أنها هي "كفلسفة وكنظام اجتماعي هي نهاية التاريخ وخاتمته السعيدة، ومن الغريب أن الرأسمالية في أمريكا لاتجد ثمة أيديولوجيا تتوج ظفرها الساحق على القطب الشيوعي إلا بإعادة الاعتبار إلى جدلية هيغل فنجد تعبئة فكروية جديدة يقودها مفكرون موزعون بين دوائر الدولة العليا في أمريكا ومراكز البحث تتوسل بموضوعية إلى نهاية التاريخ حسب المثال الهيغلي" ويضرب مثلاً على تلك الدراسات بدراسة المنظّر الأبرز فرانسيس فوكوياما والذي يفرض في صياغته لنهاية التاريخ "الخاتمة بالحرف الكبير وليس مجرد أية خاتمة".
ويشرح مطاع صفدي سيطرة هاجس النهاية منذ نيتشه إلى أحوال العدمية الأسيانية المتفجعة إلى فزع هايدغر من التقنية ونعتها لها بميتافيزيقيا العصر إلى العودة نحو عقلنة التاريخ في إطار الدورات الموسمية مع اشبنغلر فيصف الرحلة في جو النهايات بـالمتشعبة ويتلبسها الغموض غالباً وتتراوح نفسياً بين البشير والنذير وإلى الأول أكثر من الثاني، غير أن المنعطف تحقق بعد اكتشاف الحداثة البعدية وفي هذا المنعطف أيضاً لم يحصل الخلاص من تيه النذير ولم يسقط الفكر الكارثي نهائياً.
يضيف:"الخيار النووي -وهو الحتمي كحل وحيد للاستقطاب- يغدو في ملعب الحداثة البعدية إحدى الكرات الملعونة والجهنمية؛ ولكنه بذلك يفقد مصيره الحتمي وقد برهنت التحولات السياسية البنيوية الأخيرة على إمكانية تقويض الاستقطاب من داخل جدليته العمياء ذاتها دون حتمية الكارثة الكونية الشاملة. وهكذا فإن الحداثة البعدية تغادر هامشية التاريخ لأول مرة" ويعلّق بصيغة نقدية لافتاً إلى أن "فكر النذير الذي طبع الأعمال الأخيرة لهايدغر لم يكن مبالغاً في توحيده بين تطور التقنية والمصير الكارثي الآتي من خلال رؤية الدمار المطلق النووي. لكن الخطوة النوعية التي تقدمت بها الحداثة البعدية عن فكر النذير ذاك، هو أنها جعلت النهاية النووية واحدة من ممكنات كثيرة لشكل النهاية".ويلفت أيضاً إلى أن "الحداثة شبّت وترعرعت في جوّ الحتمية الكارثية، لكنها انزاحت عنها مسافات كثيرة" وهي بحسبه "لم تتخل عن أيقونة النهاية شرط أن تكون نهاية لذلك التاريخ". والمقصود به ذلك التشكيل الانغلاقي.
مطاع صفدي يرد بتحليله الضروري لموضوع نهاية التاريخ الأفكار إلى منابعها شرح بشكل واضح ظروف وأساس نشأة فكر "النهايات"، ووضع القارئ على حدّ تلك الحقبة المنشغلة باستقبال التقنية ورسم صورة الإنسان الأعلى والجديد، ونحت الميتافيزيقيا الجديدة والنفخ في "جدلية هيغل" رغبةً في تسطير شكل الانغلاق او إعلانه إن وجد، وإنّ عرضاً مختصراً لتحليل صفدي الثمين لنظرية فوكوياما لن يفي بعرض كامل لعروق تلك النظرية وملابساتها والتي أخذت حقّها من الطرح وهي النظرية التي ينبض عبرها جسد بعض الانتاج الحديث في مجالات مختلفة لذا لا أملك سوى الاعتراف بأن هدفي هو اكتشاف موقعنا من تناهي المنظّرين الذاتي للوصول إلى سيناريو «النهاية».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق