الدولة ذات السيادة ومنافسوها .. تحليل لتغير الأنظمة . هندريك سبروت

الدولة ذات السيادة ومنافسوها .. تحليل لتغير الأنظمة

تأليف : هندريك سبروت

 مركز نماء للبحوث  -  بيروت  2018   |   450  صفحة   |   8.10  م . ب




مرَّ النظام العالمي في نهاية القرون الوسطى بتغير جذري؛ إذ تحول النظام الفيودالي - متمثلًا في الإمبراطورية الرومانية والسلطة الكنسية والإمارات والدوقيات - بشكل تدريجي إلى نظام الدول ذات السيادة، التي تميزت بأن لها حدود معينة، واستندت إلى عنصرين، الأول الهيراركية الداخلية، والثاني الاستقلال الخارجي.
ولقد سعت الأدبيات الغربية إلى تفسير هذا التغير الحادث في النظام الدولي، وتوصل معظمها إلى أنَّ ظهور الدولة ذات السيادة ما هو إلا نتيجة حتمية للتطور التاريخي. في حين كان لمؤلف الكتاب وجهة نظر أخرى.
ولقد تمثلت الأطروحة الرئيسية لهندريك سبرويت في أنَّ:
ظهور نظام الدولة ذات السيادة لـم يكن حتميًّا، حيث لـم تكن الدولة هي المظهر الوحيد للتنظيمات السياسية آنذاك، بل كان لها منافسون خاصون - وهم اتحادات المدن والدول المدينة - وكان يمكن أن تكون لهم الغلبة في النهاية. لكن لماذا لـم يحدث هذا؟ ولماذا حلت الدولة السيادية محل هذه التنظيمات السياسية الأخرى، ولماذا اتخذت بعض الحكومات شكل السيادة والقواعد الإقليمية، في حين لـم يفعل الباقون؟ وهو ما سعى سبرويت للإجابة عليه من خلال هذا الكتاب. الذي جاء هيكله واضحًا ومفصلًا؛ إذ يركز كل من الفصل الأول والثاني على نقد ما يسمى «نظرية التطور غير الخطي» للدولة، ويقدم تفسيرًا مؤسسيًا مختلفًا. في حين ركز الفصل الثالث على المنظمات غير القطرية كالكنيسة والإمبراطوريات. وكانت الفصول من الفصل الرابع حتى الفصل السابع بمثابة قلب الكتاب حيث تطرق الكاتب للنهضة الاقتصادية في أواخر العصور الوسطى، ودراسة المؤسسات الثلاث التي استفادت منها وهي النظام الملكي في فرنسا، والرابطة الهانزية في ألمانيا، والدول المدينة في إيطاليا. ثم تناول في فصل آخر المزايا النسبية للدولة القطرية ذات السيادة والتي تتفوق بها عن اتحادات المدن والدول المدينة ذوي السيادة المجزأة. ويأتي فصله الأخير ليقدم المحصلة النظرية للسؤال المؤسسي الذي طرحه الكاتب، وحاول الإجابة عنه من خلال فصوله، ثم يقيّم أهميته في التنبؤ بالسلوك المستقبلي للدول ذات السيادة والنظام الدولي.
وفي هذا الإطار، فقد تركزت أجندة سبرويت على شقين. الأول، استكشاف ظهور الدولة ذات السيادة كنظام بديل للنظام الفيودالي. والثاني تسليط الضوء على عملية الانتقاء التي جعلت الدولة القطرية ذات السيادة تحل محل أشكال التنظيم السياسي المعاصرة لها.
نقد نظرية التطور لخطي للمؤسسات:
تنظر معظم الأدبيات إلى عملية التحول المؤسسي من النظام الفيودالي إلى نظام الدولة ذات السيادة على أنَّه عملية تطورية أحادية الخطية، وتنظر للنظام العالمي الحالي على أنَّه نتيجة حتمية للتطور التاريخي. فمثلًا ترى الواقعية الجديدة أن الدولة القومية ظهرت كبديل للفيودالية؛ لأنَّها استفادت من وفورات الحرب، في حين يفترض الماركسيون أن الدولة القومية ظهرت كانعكاس للتناقضات الاقتصادية في الفيودالية، ولأنَّها سمحت بخلق أسواق أكبر للبرجوازية. وتتشابه تلك الرؤى في أنها تُظهر الدولة القومية كنسخة وحيدة للتطور المؤسسي في العصور الوسطى، بل وتعمل على إيجاد السوابق السببية لظهور الدول القومية.
يرفض سبرويت فكرة حتمية ظهور الدولة القومية، وينقد نظرية التطور الخطي للمؤسسات، على أساس أنَّه لـم تكن الدولة القطرية هي الشكل الوحيد الناتج عن الفيودالية، وكان هناك تنوع مؤسسي شمل اتحادات المدن مثل الرابطة الهانزية بألمانيا وكذلك دول المدن في إيطاليا، جنبًا إلى جنب مع الدولة القطرية في فرنسا؛ وبالتالي: فقد أهملت النظرية الخطية التباين في أنواع الوحدات المختلفة التي كانت تشكل النظام الدولي آنذاك. كما عجزت عن وضع تفسيرات لظهور أنواع مؤسسية مختلفة وأسباب الانتقاء اللاحق وهيمنة الدولة القومية على باقي البدائل المؤسسية. لذا فالتفسير الجيد للتطور الاجتماعي يحتاح إلى تفسير كيفية صعود بدائل مختلفة، وكيف قامت الدولة ذات السيادة بإزاحة بدائلها المتزامنة.
أفول الفيودالية وظهور تنظيمات سياسية جديدة في النظام الدولي:
من المرجح أن يحدث تغير في الوحدات المكونة للنظام إثر تغير خارجي واسع أو (صدمة بيئية)، وهو ما يؤدي إلى تشكيل الأفراد لتحالفات ومؤسسات سياسية واجتماعية لتلبية مصالحهم المادية والمفاهيمية ومنظوراتهم الأيدلوجية. ويصبح بقاء هذه المؤسسات مرهونًا بقدرتها على التنافسية النسبية.
وكانت تتميز العصور الوسطى بوجود مؤسستين عالميتين هما الدولة الرومانية والكنيسة، وعلى الجانب الآخر كان هناك مؤسسات فيودالية مثل الإمارات والدوقيات. ولـم يكن لهذه المؤسسات سيادة على حدود معينة. كما استندت إلى الروابط الاعتمادية المتبادلة دون وجود هيراركية واضحة. وكان الاندماج فيها يتم على أساس الروابط الشخصية وليس الهُوية والولاء. وادّعى كل من الإمبراطورية والكنيسة شمولية حكمهما؛ إلَّا أنَّه مع نهاية الألفية الأولى تعرضت هذه المؤسسات ذات الصبغة اللامركزية إلى زعزعة استقرارها، وأفسحت المجال لتنظيمات سياسية أخرى لتحل محلها. وذلك يرجع لعدد من التحديات، يأتي على رأسها النهضة الاقتصادية في غرب أوروبا ونمو التجارة بشكل متزايد.
لقد شهدت أوروبا نهضة اقتصادية ونمو متزايد في حجم التجارة في أواخر القرون الوسطى، ممَّا كان له تأثير كبير على بنية النظام السياسي القائم؛ إذ أدَّى توسع التجارة عبر المسافات الطويلة إلى اضطراد عدد المدن والمراكز الحضرية، التي زادت أهميتها النسبية وأصبح لها تأثير على النظام السياسي والاقتصادي القائم. كما ظهرت طبقة اجتماعية جديدة من سكان المدن تسمى «البورغر». تملك هذه الفئة مصادر جديدة من الدخل والسلطة، ولـم ترض بالترتيب الفيودالي، لاختلاف تفضيلاتهم ونظمهم العقائدية عن الأطر المؤسسية والمفاهيمية التي كانت موجودة آنذاك. وفي هذا السياق فقد بدأ «البورغر» في البحث عن حلفاء سياسيين جدد يكونوا على استعداد لتغيير الوضع القائم وتحقيق مصالحهم.
ويجادل سبرويت بأنَّ البورغر في تلك الفترة كانت لديهم اثنين من التفضيلات التنافسية، وهي إمَّا تحقيق أكبر قدر من الاستقلالية في الحصول على الإيرادات والخدمات العسكرية، أو وجود سلطة مركزية قوية تعمل على نمو التجارة وتخفيض تكاليف المعاملات. تلك التفضيلات هي التي أدت في النهاية إلى ظهور مؤسسات بعينها وبقائها دون غيرها. وفي هذا الإطار يقوم الكاتب بتحليل أسباب ظهور ثلاثة أنواع من المؤسسات (الدولة القطرية ذات السيادة في فرنسا، الرابطة الهانزية في ألمانيا، والدول المدن في إيطاليا) كبديل للفيودالية. ويبدأ تحليله للحالات الثلاث السابقة عند نهاية القرون الوسطى وينتهي عند صلح وستفاليا عام (1648 م) الذي اعترف رسميًّا بنظام الدولة القومية.
ظهور الدولة ذات السيادة في فرنسا:
لـم يكن للمدن الفرنسية مصادر تمكنها من الاستقلالية، فمنح البورغر التفضيل للنظام المركزي الحكومي؛ لتحسين بيئة العمل، وإنشاء مؤسسات سياسية بديلة تكون أكثر ملاءمة للتجارة وأسلوب المعيشة. ومن ثَم: فقد دعم البورغر الملك الذي استطاع تحقيق المزيد من اليقين في بيئة العمل من خلال توحيد الضرائب والإدارة، والاعتماد على البيروقراطية التخصصية. كما منح البورغر حريات مجتمعية بعيدًا عن قيود الفيودالية، وأتاح للبورغر اتخاذ قرارات - متواضعة - في عملية فرض الضرائب، وضمن ولاء الموظفين عن طريق منحهم رواتب جيدة. كما فضل الملك تغيير النظام القانوني القائم على دعاوى الشمولية واستبداله بالقانون الروماني المستند لمفهوم السيادة. ومن ثَم: التقت مصالح الملك مع مصالح البرجوازية، وتشاركوا نظمًا عقائدية مماثلة، ممَّا ساهم في إنشاء الهيكل الأساسي للدولة القومية الفرنسية في أوائل القرن الرابع عشر في عهد الملك فيليب. والذي تم الاعتراف به كسلطة علمانية في مملكته من قبل بابا الكنيسة.
ومن ثَم يمكن القول بأنَّه لـم ينطلق الأفراد بشكل متعمد لإيجاد المفهوم المجرد للدولة ذات السيادة؛ إلَّا أنَّها ظهرت في إطار سعيهم وراء تحقيق مصالحهم المادية والأيدلوجية، التي وضعت فيما بعد الأساس لتطور النظام الدولي.
ظهور رابطة الهانزا في ألمانيا:
لقد كانت المدن الألمانية على نقيض المدن الفرنسية؛ إذ كان لديها حوافز قوية لتجميع مواردها، نظرًا لطبيعة تجارتهم التي كانت تتميز بكبر حجمها، وانخفاض القيمة المضافة. في حين كان يتوسع الأمراء الفيوداليين في السيطرة على الممتلكات. ومن ثَمَّ: فقد بحث البورغر عن مؤسسات جديدة لتعزيز مصالحهم الاقتصادية بعيدًا عن تجاوزات النبلاء، خاصة في ظل انحياز الإمبراطور الألماني للنبلاء ضد المدن في سبيل تحقيق آماله ليكون رئيسًا عالميًا للمسيحية. ونظرًا لافتقار المدن الألمانية - فرادى - للقوة العسكرية لمقاومة النبلاء، فقد طورت ما يسمى «رابطة الهانزا» التي تضم معظم المدن الرئيسية في وسط وشمال ألمانيا وهولندا وبحر البلطيق، وتنظيمها من أجل الحرب وتحقيق قدر أكبر من النظام في التجارة. وبحلول النصف الثاني من القرن الـ (13) اختفى الإمبراطور كعامل قوة، وأصبحت ألمانيا خليطًا من اتحادات المدن.
صعود الدول المدينة في إيطاليا:
سمحت الأرباح العالية الناجمة عن التجارة في السلع الفاخرة للمدن الإيطالية بأن يكون لهم جيش قوي وأسطول لحماية مدنهم. ومنذ أن أقامت الطبقة الأرستقراطية داخل هذه المدن وباشروا مصالحهم التجارية، لـم تحتَجْ هذه المدن للتحالف مع الإمبراطور، بل ونجحت في هزيمته ما بين القرنين الثاني العشر والثالث عشر الميلادي، فضلًا عن أنه لـم يكن للبابا أي سيطرة سياسية حقيقية خارج الولايات البابوية. كما أدت طبيعة البيئة التجارية فيما بين المدن الإيطالية إلى تنافسهم أكثر من سعيهم للوحدة. ومن ثَم: فنتيجة هذا الاختلاف في المصالح، والاختلاف في أنواع الحكومات لم تعرف إيطاليا شكل الدولة ذات السيادة أو حتى الاتحادات المؤقتة، لكنها أقرت ترتيب مؤسسي جديد أطلق عليه «الدول المدن»، والتي وصل عددها مع نهاية القرن الـ (15) إلى سبع دول مدينة، من أهمها فلورنسا وميلانو والبندقية.
بعد أن عرض سبرويت أسباب ظهور التنظيمات السياسية الثلاث السابقة كبدائل مؤسسية للنظام الفيودالي، ينتقل للإجابة على سؤاله الرئيسي في هذا الكتاب:
لماذا استمرت الدولة ذات السيادة وحلت محل أنظمة الحكم البديلة؟
انتصار الدولة ذات السيادة:
ما الذي حدث في القرون الثلاثة السابقة لصلح وستفاليا بحيث أصبحت الدولة ذات السيادة هي العنصر الرئيسي المكون للنظام العالمي؟ لماذا لـم ينجُ إلا بديل واحد من الترتيبات المؤسسية؟ هل يمكن أن نستخلص دروسًا عامة من أفول الرابطة الهانزية والدولة المدينة؟ في سبيل الإجابة على تلك الإشكاليات ظهرت العديد من التفسيرات التقليدية، التي كان من أهمها نظرية التطور الدارويني عن طريق الحرب، اولتي جادلت بأنه انتصرت الدولة ذات السيادة؛ لأنَّها كانت قادرة على شن الحرب بنجاح أكثر من باقي المؤسسات التنافسية الأخرى.
رفض سبرويت نظرية التطور الدارويني عن طريق الحرب بشكل جزئي، وقدم تحليلًا جديدًا لأسباب استمرار الدولة ذات السيادة دون غيرها.
وفي هذا الإطار يجادل سبرويت بأنَّ هناك ثلاثة آليات يتم من خلالها الانتقاء في السياسة الدولية:
الآلية الأولى:
الانتقاء وفقًا لنظرية البقاء للأصلح الداروينية:
لقد كان للدولة القومية خصائص ومزايا تؤهلها للبقاء مقارنةً برابطات المدن أو الدول المدينة؛ إذ كانت الدولة ذات السيادة في فرنسا أكثر فعالية من حيث التنظيم البيروقراطي، وفي توحيد الرسوم والضرائب، وصك العملة، ومنع الركوب المجاني، فضلًا عن مركزة النظام القانوني، بما يحقق المصلحة العامة وتعزيز التجارة. في حين كانت كل من رابطة الهانزا في ألمانيا والدول المدينة في إيطاليا أقل كفاءة في خلق نظام موحد للحكم، وفي فرض الضرائب، وفي منع أعضائها من الانشقاق. حتى أنه كانت تفضل بعض دول المدن الصغيرة في إيطاليا أن يتم احتلالها من قبل الملك الفرنسي على أن تهيمن عليها جاراتها.
الآلية الثانية:
الانتقاء من خلال التمكين المتبادل:
يحتاج التبادل الدولي إلى قدر من الاستقرار والمصداقية في الالتزامات والولاية القضائية الداخلية من قبل الأطراف المتعاقدة. وفي هذا الإطار فقد فضّل الفاعلون في النظام الدولي التعامل مع الدولة القومية كشريك موثوق به؛ لأنَّ لديها حدود ثابتة، وتسيطر على رعاياها بحزم، ولا تدعي حق ولايتها القضائية خارج حدوها. في حين كان ينظر لرابطة الهانزا مثلًا على أنَّها شريك غير موثوق به، نظرًا لخصيصتها اللامركزية، فلم تكن تستطع إلزام كل أعضائها بالاتفاقيات المبرمة مع باقي القوى الأخرى، بل لـم تكن تحدد من يفاوض؟ وإلى أي مدى أعضاؤها ملزمون بشروط الاتفاقيات؟ كما أعلنت أنه لا يمكنها تحمل مسئولية انتهاكات المدن فرادى للمعاهدات. كما أنَّها لـم تحصر سلطتها في حدود معينة. ومن ثَم: لـم يتم الاعتراف بها من قبل الفواعل الآخرين في النظام الدولي.
الآلية الثالثة:
الانتقاء من خلال التكيف الموجه:
تتشكل عملية الانتقاء من الخيارات التي يحددها الأفراد. ويقوم أصحاب المشاريع السياسية بنسخ المؤسسات التي يرون أنها نجحت في الحد من عدم اليقين، وحققت مجموعة من الأهداف مثل الإيرادات العالية وتشكيل قوات عسكرية قوية، وساهمت في التحول لأنظمة أكثر استقرارًا. ومن ثَم: فقد بدت الدولة القطرية ذات السيادة نموذجًا للمتحمسين من أصحاب المشروعاتالسياسية، مثل اللورادت الألمان، فبمجرد إدراكهم لقوة الدولة القطرية وتحقيقها قدر هائل من الإيرادات فقد بدأوا بالخروج والانشقاق عن اتحادات المدن، ونسخ هذا النوع من الترتيب المؤسسي في سبيل زيادة عائداتهم وتوسيع قدراتهم العسكرية.
وفي استنتاجه الأخير يؤكد الكاتب على أن نظام الدولة القومية يثبت نفسه الآن بقوة - أكثر من أي وقت مضى - على أنَّه قادر على تشكيل العالم كله. وأنه لم يتراجع - ربما ما عدا في حالة الاتحاد الأوروبي - حتى الأنظمة العالمية مثل الإسلام لـم تستطع أن تزعزع استقرار هذا النظام؛ إذ إنَّ نظامًا قائمًا على ترسيم الحدود والاعتراف المتبادل يخلق نمطًا ممنهجًا للتفاعل في الشئون الخارجية. كما أنَّ النخب السياسية القائمة لديها حوافز قليلة في تبديل المؤسسات القائمة وتجربة مؤسسات وترتيبات جديدة، فبمجرد إرساء قواعد الدولة ذات السيادة لمدة قرنين أصبحت تجربة أشكال مؤسسية جديدة مكلفة للغاية، حتى القادة الأفارقة الذين فرض عليهم نظام الدولة القومية لم يبدون - بعد استقلالهم - أي رغبة قوية في التحول لترتيب مؤسسي جديد. كما أنه هناك قيود على التنظيمات السياسية الأخرى مثل الجماعات الإثنية في أن تخلق شكل تنظيمي عالمي، فهي نفسها ترغب في أن تتحول لدول ذات سيادة. ومن ثَم: يمكن القول إنَّ الدولة القومية ما زالت على «قيد الحياة وبعافية»، بل ويمكن المجادلة بأن التنظيمات الدولية تقوّي من نظام الدولة ولا تضعفه؛ إلَّا أنَّه لا يمكن أن ننكر بأن كل المؤسسات القائمة بما فيها الدولة القومية عُرضة للتحديات، فمثلًا تمثل التغيرات في الاقتصادات والاتصالات والتكنولوجيا والبيئة تحديًا لسلطة الدولة القومية. كما أنه ليس بالضرورة أن تكون المؤسسات القائمة هي الاستجابة الأكثر كفاءة لهذه التحديات.
ختامًا:
يشكل كتاب هندريك سبرويت نطاقًا ومرجعًا عقليًّا وفكريًّا مهمًا لا بُدَّ من الاطلاع عليه؛ إذ يزودنا برؤية ثاقبة عن ظهور الدول القومية، ولماذا أصبحت الدولة ذات السيادة هي الوحدة الرئيسية المكونة للنظام الدولي، في حين اختفى منافسوها. كما يغطي الكتاب تطورات المؤسسات الدولية والسياسة المحلية والعلاقات في أوروبا منذ نهاية العصور الوسطى. ويذكر أنه لم يُغفل الكاتب تأثير النظم العقائدية والمثل الاجتماعية والأطر المفاهيمية على الممارسة السياسية والتحالفات الاجتماعية. وقد جاءت أفكار الكاتب منظمة ومرتبة ترتيبًا منطقيًّا، كما استخدم حججًا عقلانية، ممَّا ساهم في النهاية في إثبات صحة أطروحته في رفض الظهور الحتمي للدولة القومية من ناحية، وتفسير أسباب استمرارها من ناحية أخرى. كما تكشف فصول الكتاب عن السعة المعرفية لدى الكاتب وتوظيفها لإثبات حججه.
كما تأتي أهمية هذا الكتاب في إطار التساؤلات والتنبؤات التي يطرحها بعض الأكاديميين والاقتصاديين بأنَّه قد يشهد النظام الدولي الحالي تغيرًا جذريًّا في ظل عملية العولمة، وقد تصبح الدولة ذات السيادة أقل أهمية من المنظمات العابرة للقوميات، خاصة مع ظهور الفواعل من غير الدول العابرين للحدود، فضلًا عن عولمة الأسواق العالمية، والكوارث الطبيعية، وصولًا إلى البحث عن طرق جديدة لتنظيم السياسات المحلية والدولية. وفي هذا الصدد يقدم هذا الكتاب أطروحة مهمة وتحليلًا جيدًا للتغير المؤسسي، الذي يساعد في الإجابة عن السؤال الملح الذي يطرح نفسه في الحقبة المعاصرة والذي يدور حول كيف يمكن لأشكال تنظيم سياسي جديدة أن تظهر؟ وما مدى قدرتها آنذاك على تغيير سلوك النظام الدولي الحالي بشكل جذري؟
ويؤخذ على سبرويت مايلي:
- أنَّه أهمل بريطانيا كدراسة حالة، وهو ما يقوّض تحليله من ناحيتين:
الأولى: أنَّه من المحتمل أن تكون بريطانيا قد سبقت فرنسا في عمليتها التكوينية كدولة قومية؛ إذ إنَّه بحلول القرن الثاني عشر كان حكام البلاد قد وضعوا أسس مؤسسات مركزية قوية.
الثاني: أنَّ الدولة القومية في إنجلترا وفَّقت ما بين تعدد مراكز القوى والنظام السياسي الوحدوي. هذا المزيج المؤسسي قد يشكل بديلًا مستقلًّا عن الحالات الثلاث التي ذكرها سبرويت؛ وبالتالي: فإنَّ استبعاد إنجلترا يشكك في اختيار الأمثلة وفي اكتمال التحليل.
- أنَّه ركز بشكل كبير على المنطق الاقتصادي، والذي لـم يكن مقنعًا في بعض الأحيان.
- أكد المؤلف على أهمية «الحدود الثابتة» كعنصر من عناصر استقرار النظم، وكعنصر ميزة لصالح الدولة القومية، والذي ترتب عليه زيادة مصداقيتها وقبولها بين الفواعل الدولية، ممَّا ترتب عليه سعي هذه الفواعل للقضاء على التنظيمات العابرة للحدود؛ إلَّا أنَّه يمكننا أن نرى بأنفسنا تكاليف هذه السياسة؛ إذ تم تقسيم المجتمعات الإنسانية إلى أجزاء ودول دون الأخذ في الاعتبار المكون الثقافي، ممَّا أدى إلى دمج مواطنون مختلفون ثقافيًا مع بعضهم البعض، فبدأت العديد من الأقليات تفقد هُويتها الدينية والثقافية واللغوية في سبيل التجانس القسري في الدولة القومية، وهو ما أدى في كثير من الأحيان إلى نشوب النزاعات والحروب الأهلية وبالتالي عدم استقرار الأنظمة، مثل العديد من الدول الإفريقية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق