مفهوم الثقافة فى العلوم الاجتماعية . دنيس كوش

مفهوم الثقافة فى العلوم الاجتماعية 

تأليف : دنيس كوش

المنظمة العربية للترجمة  -  بيروت  2007   |   235  صفحة   |   5.11  م . ب


تحميل الكتاب

الإنسان – جوهرياً – كائن ثقافي، وقد تمثلت فيه صيرورة الأنسنة التي انطلقت منذ أكثر من خمسة عشر مليون سنة في المرور من تأقلم وراثي مع المحيط الطبيعي إلى تأقلم ثقافي.
هكذا يرى مؤلف الكتاب وبهذا التعريف الجديد يحد كوش من النزعة الغرائزية التي تصوّر الإنسان كائناً طبيعياً يلهث وراء مُتعه وشهواته فحسب. وبهذا التعريف أيضاً للإنسان يحدّ من الحتميات البيولوجية التي تفرضها الأنظمة والقوانين الاجتماعية على الكائن البشري.
فالإنسان ثقافي أولاً، ما يعني قدرته على التحوّل في ظل فروض البيئات الاجتماعية، وقدرته أيضاً على التأقلم مع بيئات مختلفة، ما يبدد الحواجز والتناقضات البشرية.
تعريف الثقافة:
يرى (دنيس كوش) أستاذ الأثنولوجيا في جامعة السوربون أنه لا يمكن تحديد مسارات مفهوم الثقافة إلا ضمن السياق الاجتماعي، فالعلوم الاجتماعية ليست مستقلة عن السياقات الفكرية واللغوية، ولذلك فإن تفحص مفهوم الثقافة العلمي يفترض دراسة تطوره التاريخي ويرتبط مباشرة بالتكون الاجتماعي للفكرة الحديثة عن الثقافة. ويرجع الفضل في تعريف مفهوم الثقافة إلى العالم البريطاني (تايلور)، حيث يشمل تعريفه والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون، وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.‏
التطور التاريخي لكلمة ثقافة:
يستعرض كوش في كتابه التطور التاريخي لمفردة الحضارة، ويرى الكاتب أنه ومنذ القرن الثامن عشر بدأت كلمة “ثقافة” تفرض نفسها بالمعنى المعرفي وليس الحرفي، وقد تم إدراجه في قاموس الأكاديمية الفرنسية. وفي عصر الأنوار، اندرجت المفردة في إيديولوجياته، فراحت تقترن بالأفكار الدالة على التقدم والتطور والتربية والعقل التي أشاعها وتبناها وأطلقها ذلك العصر. لكن كان آنذاك ثمة علاقة قرابة قوية بين مفهومين كبيرين هما “الثقافة” و”الحضارة”، وكادت مفردة الحضارة تبتلع الأخرى، إذ شاع استعمالها أكثر ضمن معجم القرن الثامن عشر الفرنسي.
وبالوصول إلى القرن العشرين فقد اختلف تطور الكلمة في هذا العصر اختلافاً كبيراً، فقد ساد نوع من الانبهار والافتتان إزاء الفلسفة والآداب الألمانية التي كانت في عز ألقها، ما ساهم في توسيع فهم الكلمة، وأكسبها “بُعداً جماعياً”، فهي لم تعد تُنسب إلى التطور الفكري للفرد فحسب، بل أصبحت تنسب إلى التطور الفكري لجماعة بشرية معينة، فظهرت تعبيرات من مثل “ثقافة فرنسية” و”ثقافة ألمانية” و… وهنا تقترب كلمة “ثقافة” من كلمة “حضارة” كثيراً، ولطالما استخدمت إحداهما للدلالة على الأخرى.
ثقافة /حضارة: صراع المصطلحات:
واستكمالاً للجدال الحاصل بين مفردتي (ثقافة) و(حضارة) فقد كان هناك مدرستان تنظران إليهما نظرة مختلفة تماماً، فالمدرسة الفرنسية كانت تستخدم كلمة (حضارة) للدلالة على المجتمع والأمة المزدهرة المتعلمة …
وكان المجتمع الألماني يعيش انقساماً اجتماعياً كبيراً فهناك (الطبقة الأرستقراطية)، وهي طبقة النبلاء الذين كانوا يعيشون في بروج عاجية بعيداً عن بقية الطبقات، وتعتبر هذه الطبقة هي المتنفذة في البلاد، وهي التي بيدها السلطة بمباركة من رجال الدين. أما الطبقة الثانية فهي (طبقة البورجوازية) وهي الطبقة المتوسطة والمثقفة في ذات الوقت والمستبعدة عن أي عمل سياسي مما غذى لديها شعوراً بالمرارة والنقمة على طبقة النبلاء، ثم (طبقة الرعاع) أو الطبقة الكادحة “الفلاحين” التي كانت ترزح تحت ظروف سيئة.
إن التهميش الذي كانت تعانيه طبقة المثقفين من قبل طبقة النبلاء سعى بهم إلى وضع القيم الروحية القائمة على العلم والفن والفلسفة، وكانوا يعيبون على طبقة النبلاء إهمالهم لهذه القيم وتكريس جل وقتهم لاحتفالات البلاط، ومحاكاتهم للنموذج الفرنسي في ذلك، ما مهد لظهور التعارض بين منظومتي القيم السابقة، فكل ما ينشأ عن الأصالة ويساهم في الإغناء الفكري والروحي اعتبرته المدرسة الألمانية، المتمثلة بالطبقة البرجوازية (الثقافة)، أما المظاهر البراقة والخفة والتهذيب السطحي فينتمي إلى (الحضارة)، وهكذا فقد كانت الطبقة المثقفة تنظر لطبقة النبلاء على أنها طبقة متحضرة ولكن ليست مثقفة!
استعرض المؤلف في الفصل الثاني مجموعة من تعريفات الثقافة أبرزها لـ (لتايلور) و(بوا) و(دوركايم) و(لوسيان ليفي).
ولنأخذ التعريف الأكثر عالمية بنظر كوش، وهو تعريف العالم البريطاني “إدوارد تايلور” الذي عرف الثقافة بأنها: “ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع “، ويمكن تلخيص هذا التعريف وفقاً لنظر دنيس كوش بما يلي:
– أنه تعريف وصفي وموضوعي وليس تعريفاً معيارياً، وهذا ما كان يسعى إليه علماء الإنسان بشكل عام.
– يعبر عن نظرة شمولية للحياة الاجتماعية للإنسان.
– أن الثقافة وفق هذا التعريف تكتسب بعداً جماعياً (باعتباره عضواً في مجتمع).
– أن الثقافة في نهاية مكتسبة، وبالتالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية.
– ما يجدر ذكره أن تايلور، بحسب كوش، كان متردداً في تعريفه بين كلمة ثقافة وحضارة، وهذا التردد كان هو الطابع العام في تلك الفترة، وإن كان في النهاية فضل استخدام كلمة “ثقافة”، لأنه كان يرى أن استخدام كلمة “حضارة” بما تشير إليه من منجزات مادية لا يمكن في إطار دراسة المجتمعات البدائية.
انتصار مفهوم الثقافة:
في الفصل الثالث – والذي عنونه: انتصار مفهوم الثقافة – اعتبر كوش أن مفهوم الثقافة فرض نفسه في مجمل ميادين المعرفة، ولكن هذا الواقع لم يتم بطريقة متماثلة الأهمية في كل البلدان التي ازدهرت فيها (الأتنسولوجيا)، وأن الولايات المتحدة هي أهم دولة لقي فيه هذا المفهوم قبولاً كبيراً، وقد بلغ التكريس العلمي لـ (ثقافة) في الولايات المتحدة حداً جعل الكلمة تتبنى سريعاً بمعناها الأنثربولوجي في الاختصاصات المجاورة، وخاصة علمي النفس والاجتماع.
ويعزو كوش سبب النجاح هذا في أميركا خصوصاً هو كون الولايات المتحدة تعتبر شرعية المواطنة فيها مرتبطة بالهجرة. فالأمريكي إما مهاجر أو ابن مهاجر، وفي هذا الاندماج البشري يمكن تقبل الجماعات الإثنية على اختلافها. وقد تمخض عن ذلك ما يمكن اعتباره (فدرالية ثقافية) تسمح بالتعبير عن ثقافات مخصوصة ومتعددة.
وقد أسهب كوش في هذا الفصل بالحديث عن غزو كلمة الثقافة في مجمل ميادين المعرفة، وتبنيها من قبل العديد من العلماء والمثقفين.
المثاقفة:
في الفصل الرابع تحدث المؤلف بشكل أساسي عن مفهوم (التثاقف)، والمثاقفة – بشيء من الاختصار – عملية مزج ثقافي أو تبادل ثقافي. وقد اعتبر كوش أنه في السابق كان ينظر لعملية المزج الثقافي على أنها أشبه ما تكون بعملية المزج البيولوجي سواء بسواء، فهي تشكل لديهم ظاهرة سلبية أو مرضية إلى حد ما، أما الأنثروبولوجيا فقد كانت تطمح إلى إيجاد وصف موضوعي للمثاقفة بعيداً عن المواقف المبدئية.
ولم تنشأ “المثاقفة” كمصطلح إلا على يد “بوي”، ورغم ذلك فلم يتكون التفكير المنهجي إزاء هذا المفهوم سوى في القرن العشرين .
ورغم أن الأنثروبولوجيين الانتشاريين اهتموا كثيرا بظواهر الاقتراض وانتشار السمات الثقافية إلا أن جهودهم لم تركز سوى على جانب نتيجة الانتشار، ولم تصف سوى الحالة النهائية لتبادلٍ باتجاه واحد، وهذا يستدعي بالضرورة أنه لا يلزم من الانتشار أن يكون هناك احتكاك مباشر بين الثقافة المعطية والمتلقية. فالمثاقفة تعني إذاً أنها: تبادل التأثير الثقافي من قبل ثقافتين تتصلان ببعضهما اتصالاً مباشرا ً ومستمراً مهما كانت طبيعة هذا الاتصال وأهدافه.
الطبقات الثقافية:
في الفصل الخامس تحدث كوش عن التراتبات الاجتماعية والتراتبات الثقافية، معتبراً أن التراتبات الاجتماعية، والتي تعني التفاوت والاختلاف بين طبقات المجتمع أو بين مجتمع وآخر تجعلنا نشهد تراتبات ثقافية، أي تفاوت بين عدة ثقافات قوةً وضعفاً، بمعنى وجود ثقافات مهيمنة وأخرى خاضعة. وقولنا “ثقافة مهيمنة” لا يعني أنها تتسم بقوة حقيقية أو جوهرية، إنما يمكن فهم قوة هذه الثقافة على ضوء القوة النسبية لمجموعة ما.
بين الهوية والثقافة:
الفصل السادس خصصه كوش للترابط بين مفهومي الثقافة والهوية، والسؤال: ما هي الهوية التي نتحدث عنها؟
“فالهوية تعبر عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفات الإنسان الجوهرية التي تميزه عن غيره، ولكن بعيداً عن التصور اللغوي والتقليدي، فإن مفهوم الهوية يحمل مضامين ترتبط بالمعنى الثقافي تمتد وتؤكد على اكتشاف أمرين:
1-  عناصر التميز للجماعة عن الآخرين.
2-  تصورات الجماعة للآخرين.
ولكن كيف لنا أن نفهم الفرق بين الثقافة والهوية؟
الجواب بنظر كوش أن الثقافة إحدى مكونات الهوية، فكما أنه “لا مجتمع بلا هوية” فكذلك “لا هوية بدون ثقافة”، كما يمكن لاستراتيجيات الهوية أن تعالج الثقافة أو تغيرها.
في الفصل السابع والأخير المعنون تحت الرهانات والاستخدامات الاجتماعية لمفهوم الثقافة، ويعني بذلك أن “الرهانات والاستخدامات الاجتماعية لمفهوم الثقافة”، هي المجالات التي جرى فيها استخدام هذا المفهوم اجتماعياً، ولكنّ هذه الاستخدامات لم تنج ُ في الغالب من “التدليس” والتلاعب بمدلول اللفظ. واقتصر هذا الفصل على ذكر ثلاثة نماذج لهذه الاستخدامات وهي: الثقافة السياسية، ثقافة المؤسسة، وثقافة المهاجرين.
ختام:
أخيراً فإن هذا الكتاب يمثل عرضاً مختصراً ودقيقاً لمسارات مفهوم الثقافة واستعمالاته في العلوم الاجتماعية. وهو لا يتوجه إلى الطلاب وإلى الباحثين فحسب، وإنما إلى كل المهتمين بأسئلة الثقافة، كما طرحتها العلوم الاجتماعية المختلفة. وإذا اعتبرنا ما عليه مفهوم الثقافة من تسيّب في التعريف والاستعمال عربياً تبيّنت الحاجة إليه أكثر .
فالكتاب حصيلة نقدية وكاملة للموضوع، إنه يقوم بتحليلات دقيقة، ويقدّم أجوبة متينة تدلّ على تمكّن المؤلف من مجاله المعرفي. كل ذلك بإيقاع لا يختلّ. إنه يمثل وسيلة عمل لا غنى عنها بالنسبة لعالم الاجتماع وللمؤرخ والفيلسوف وعالم النفس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق