المثقف الذي يدسُّ أنفه . سعد محمد رحيم

المثقف الذي يدسُّ أنفه .. 

مقاربات في مفاهيم الأنسنية والتنوير والحداثة والهوية، والوظيفة العضوية للمثقف

سعد محمد رحيم

دار سطور  -  بغداد  2016   |   240  صفحة   |   4.34  م . ب





"بات بعضهم، وهم من المثقفين غالباً، يتحدثون اليوم عن المثقف وكأنه زائدة مزعجة، أو تورّم مؤقّت في الجسد المجتمعي، لا معنى ولا ضرورة لوجوده، وأنه بروزٌ اعتباطي وتشكُّل كاذب حدث في غفلةٍ من الزمن، وأن العالم يمكن أن يمضي في طريقه من غير أن يتأثر أو يأبه، إذا ما اختفى هذا المثقف من المشهد العام لأيِّ سببٍ.. وباعتقادي، يمكن عدّ هذه التخريجات نوعاً من المازوكية أو جلد الذات، أو العدمية، وكلّها أمراض نفسية -اجتماعية، ناتجة عن الإحباط الشديد واليأس والشعور بالعجز أمام ما يجري من وقائعٍ جسيمة على أرض الواقع العراقي، والعربي عموماً، والذي يخفق المثقف في فهمه تماماً وتمثّله، ناهيك عن المشاركة في مواجهته وتغييره"..‏
إنه المدخل لـ  "المثقف الذي يدسُّ أنفه".. مدخل الكتاب الذي بدأهُ الكاتب والروائي العراقي «سعد محمد رحيم» بسؤاله: "هل من ضرورة لوجودِ المثقف في المجتمع والعالم".. بدأه بهذا السؤال ليعقبهُ بسؤالٍ مكمِّل: "وماذا لو اختفى هذا الكائن اللاعب في حقل الثقافة، على حين فجأة، من المشهد الاجتماعي؟"....‏
نعم، إنه مدخل لـ «المثقف الذي يدسُّ أنفه». الكتاب الذي هو عبارة عن مقاربات في مفاهيم الأنسنية والتنوير والحداثة والهوية، ووظيفة المثقف العضوية، والذي لم يبدأه الكاتب بهذين السؤالين، إلا ليجيب عنهما بمهنية أرادها تنصف المثقفين بقوله:‏
"المثقفون أنماط مختلفة، لكن، ما يُحدِّد طبيعتهم، هو الواقع والوظيفة".. يجيب بهذا مستبعداً "المثقف النطاط» الذي "لا يُعرف له موقف واضح في خريطة الصراعات الاجتماعية. ذلك الذي يتقلّب وفق ما تقتضيه مصالحه الشخصية، والذي يطرح خطابه لإرضاء مؤسسات سياسية، اجتماعية، دينية، وبما يجعله خائناً لوظيفته العضوية".‏
يستبعد هذا المثقف ويستبعد أيضاً شريحة واسعة من المثقفين الذين كشفوا في سنوات المحنة، عن الموجِّهات التحتية اللاواعية لأفكارهم وقناعاتهم، وأحياناً، من غير أن يفطنوا أو يريدوا، وهذه الشريحة وللأسف، ذات طابع طائفي أو عنصري أو ديني أو قبلي ضيق الأفق، مجسِّد لهويات ماقبل دولتيه، نابذة للآخر، فتاكة، ومشبعة بالكراهية.‏
يستبعد هذه الشرائح ويؤخر دورها، ليقدّم دور المثقف المبدع، المفكر، المنشغل، بنقدِ الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي. المثقف الذي أشهر لغته وفهمه وحسّه الجمالي وضميره الأخلاقي سعياً لرؤية الواقع والأحداث والعصر، رؤيةَ مستبصرٍ وتنويري وعقلاني وذو فكرٍ أنسني.‏
إنها البداية. بداية «المثقف الذي يدسّ أنفه» الكتاب الذي ضمّنه «رحيم» أربعة أقسام ناقش في الأول منها وتحت عنوان «الأنسنية في أفق ثقافتنا»، نشأة الأنسنية ومفاهيمها الرئيسية والحافة «العقل».. الأنسنية ومآلاتها في فكر مابعد الحداثة، والفكر العربي الحديث. بدءاً من فكر النهضة، مروراً بالماركسي، والفكر القومي العروبي، والفكر الديني وأخيراً الليبرالي».‏
ناقش كل ذلك مستنكراً مايحصلُ من تعثرٍ للفكر، وبما دفعهُ إلى السؤال ثانية: «لماذا تعثّر الفكر الأنسني في الفضاء الثقافي العربي، ودور الدولة في ذلك».. يسأل، وأيضاً من أجل أن يجيب، واعتماداً عن الأنسنية في فكر الراحل «إدوارد سعيد» بأن: «قوة الفكر الأنسني تكمن في بعده الوجودي العام، القائم على مرتكزات الذات، العقل، الحرية، وفي بعده الأخلاقي المدعم بقيم العدل والمحبة والمساواة والمحبة والتسامح، وبعيداً عن الأصولية العنفية المتفشية الآن في حياتنا السياسية والاجتماعية، والتي تعبّر عن تراجع الفكر التنويري العربي، وانتعاش السلفيات الجهادية والنزعات العنفية والمؤسسات ماقبل الدولتية».‏
ننتقل إلى القسم الثاني من الكتاب، لنقرأ وتحت عنوان «وعود التنوير وصراعات الهوية» و»مفارقة العقلانية المنتجة للعنف». لنقرأ، عن المفهوم العام للتنوير، وعن صراعات الهوية ذات المحتوى الثقافي والتي تؤدي إلى العنف». الهوية التي هي «غاية الكائن لأنها قوم إنسانيته، وملعب فطرته، وفضيلته الأخلاقية وتوءم الوجود وماهيته.. الخ..» والتي لابدَّ لمن يتبناها من خلال «جعل الثابت الموروث، مادة رئيسة في تكوينها، وتحنيطه، وتقديسه، والحكم على الآخرين الذين لا يشبهوننا من منظوره».. لابدّ لمن يتبناها من هذا المنظور، من أن يكون قد اعتمدها كمقدمة «لنبذِ الآخر وازدرائه، وكراهيته، والميل إلى ممارسة العنف ضده».‏
لاشكَّ أن هؤلاء، هم من جعلوا الكاتب يؤكد على «ضرورة التنوير» الذي رأى فيه «حركة إنسانية، كونية لابد من قراءة تاريخها ومفاهيمها وطروحاتها»، ومن أجل أن يُعاد «تشكيل الهوية من منظور تنويري عقلاني، لتكون مسعىً اختيارياً يضمن الاتصال ضمن مجال أنسني رحب ومفتوح على الآخر».‏
أما في القسم الثالث «المثقف الذي يدسُّ أنفه».. فنرى أن الكاتب تقصَّد استعارة هذا التعبير من الفيلسوف الوجودي «سارتر» للتأكيد على أن المثقف الذي يحقُّ له أن يدسّ أنفه، هو: «المثقف المبدع، والمثقف المفكر. المثقف المنشغل بإشكاليات المعنى، والمنغمس بصياغة فرضيات وتصورات فكرية قابلة للنقاش.. المثقف، المبدعُ الذي يمارس من خلال أعمال أدبية-فنية، دوراً ثقافياً، تنويرياً، راقياً، يساهم في إنضاج الوعي الاجتماعي والسياسي للمجتمع، وضمن فضاءات غير «خاصة بشريحة محددة» بل بشرائح المجتمع المتكامل، الذي تتباين فيه الأدوار والوظائف والاتجاهات والمصالح والممارسات».‏
حتماً، هو المثقف الذي نحتاجه ونعول عليه، والذي عرّفه «رحيم» بـ «المثقف الذي يغادر منبر الخطابة ذات البعد الواحد إلى فضاء الحوار المفتوح مع الآخر والذات، ولايدعي احتكار الحقيقة. أما وظيفته الفكرية والثقافية، فمشاركته في الشأن العام وصنع الجمال واجتراح الأمل، وضمن:‏
«ضمن فضاء عمومي تتصارع للتحكم به، أو بأجزاءٍ منه، قوى وتيارات وجماعات توظف وسائل السياسة والإعلام والإيديولوجيا والرأسمال الرمزي والموروث وأحياناً وسائل العنف والإكراه، للاستحواذ على أكبر قدرٍ ممكن من الغنائم والسلطة والنفوذ.. فضاءٌ، يشكل المثقف الحقيقي فيه، بعداً اجتماعياً فاعلاً، مهموماً بقضية المعنى والنقد بوصفه نشاطاً عقلياً معرفياً ومنتجاً، منهجياً، متماسكاً، منسقاً وفعالاً».‏
هذا وسواه، ماناقشه الكاتب قبل الانتقال إلى القسم الرابع والأخير، والذي يحكي فيه وتحت عنوان «تمثلات الحداثة» عن النخب الثقافية في المجتمع وبناء الدولة الحديثة، وعن العلاقة بين المثقفين والمجتمع والدولة. أيضاً، عن ظاهرة اغتراب المثقف التي هي:‏
"مسافة نفسية ووجدانية وعقلية. وجودية مفروضة بشروط واقع تاريخي.. مسافة بين الكائن والكينونة.. بين الكائن والزمان.. بين الكائن ومكانه. بين الكائن والأشياء.. بين الكائن وغيره من الكائنات. إنه ما يتطلب، تحول اجتماعي، اقتصادي يهيئ الحداثة على كافة المستويات. الثقافي، الفني، الفكري، الأكاديمي".‏
أخيراً، إن أفضل مايمكن أن نقوله عن هذا الكتاب الذي اعتمد كاتبه على الكثير من المرجعيات والأقوال والمقالات التي تحدَّثت عن المثقف ودوره وتحولاته، هو قول الكاتب بأنه: «مقاربات جاءت عبر معاينة للوضع العراقي والعربي والدولي في هذا القرن. القرن الواحد والعشرين، وبصراعاته ونذره ووجوده، وما يستطيع المثقف أن يؤديه في إطار وظيفة عضوية فعالة»..‏

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق