الديمقراطية في أمريكا (جزءان) . ألكسيس دي توكڤيل

الديمقراطية في أمريكا (جزءان)

ألكسيس دي توكڤيل

عالم الكتب  -  القاهرة   |   695  صفحة   |   13.70  م . ب



ألكسيس دي توكڤيل قاضٍ ينحدر من عائلة فرنسية أرستقراطية عريقة, كان والده ”كونت دي توكڤيل” ضابطاً في الحرس الدستوري للملك لويس السادس عشر، أما دي توكڤيل فكان مفكراً وسياسياً ومؤرخاً معروفاً, وأكثر ما أشتهر به كتابه هذا الديمقراطية في أمريكا الذي يقع في جزئين صدر ما بين سنتي 1835 و 1840, وكتاب النظام القديم والثورة الفرنسية الذي صدر سنة 1856.
          قام دي توكڤيل في هذين العملين ببحث الآثار المترتبة على تنامي المساواة في الأحوال الاجتماعية على الفرد والدولة في المجتمعات الغربية, واكتشاف قيمة المساواة في هذه المجتمعات, وقام بنشر كتاب الديمقراطية في أمريكا، الذي يعتبر من أهم أعماله العلمية، بعد رحلته إلى الولايات المتحدة في إطار مهمة رسمية للحكومة الفرنسية لدراسة نظام إصلاح السجون في أمريكا، ويعتبر هذا الكتاب اليوم من أكبر الأعمال في علم الاجتماع والعلوم السياسية.
فالكتاب الذي بين أيدينا إذن هو أحد الأعمال الجادة و الذائعة الصيت في الأوساط المهتمة بعلم التحليل السياسي، وهو يسهم في تقديم صورة واقعية حول نظام سياسي يمكن الأخذ به نموذجاً للديمقراطية في الدول الحديثة, وذلك لأنه يتناول بالبحث نشأة هذا النظام وتطور قيمه ومبادئه، كما أن السياق التاريخي للكتاب شكل مرحلة مهمة في مسار الفكر السياسي العالمي مع قيام الثورة في فرنسا وسقوط الملكية فيها, وبروز النظام الديمقراطي الأمريكي بوصفه أكثر الأنظمة التي تتجلى فيها المساواة في الأحوال الاجتماعية، وهو من أهم الأسباب التي قامت من أجلها الثورات في أوربا .
يتكون الجزء الأول من هذا الكتاب من ثمانية عشر فصلا, تبدأ من ملامح أمريكا الشمالية و أصول سكانها وسلطاتها المختلفة، و تنتهي بالأجناس الثلاثة التي تسكن أقاليم الولايات المتحدة، والمحتمل أن يكون عليه مستقبلها, وسوف نخصص هذا العرض لدراسة تحليلية للفصول الخمسة الأولى, حيث تتناول الفصول الثلاث الأولى الإطار الطبيعي والجغرافي والديمغرافي للمجتمع الأمريكي وأصل نشأته. أما الفصلان الرابع و الخامس فيتناولان البعد السياسي للعملية الديمقراطية وتجلياتها في المجتمع الأمريكي، وذلك عن طريق إفراطها في اللامركزية , وكذلك المقارنة بين الأوضاع في أوروبا بعد الثورة والثورة الأمريكية بعد نجاحها, فما الأسباب الرئيسة في نجاح الديمقراطية في أمريكا؟ وما  نقاط ضعفها ونقاط قوتها؟ وما هي الوسائل التي تساعد في خلق توازن بينهما ؟
 الإطار الطبيعي والجغرافي والديمغرافي للمجتمع الأمريكي وأصل نشأته
لم يقتصر ألكسيس دي توكفيل في دراسة المجتمع الأمريكي على الرجوع إلى أصوله وأحواله الاجتماعية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث قام بدراسة الطبيعة الجغرافية التي قام عليها هذا المجتمع وما لها من عوامل ساعدت على قيام ديمقراطية ونجاحها.
 فالعوامل الطبيعية التي تتصف بها أمريكا الشمالية مقارنة بأمريكا الجنوبية كانت حسب الكاتب بيئة جادة كأنها خلقت ليعيش فيها ذوو العقول الرزينة عكس أمريكا الجنوبية التي كانت مكانًا لإرضاء اللذات الحسية بسبب توفرها على طبيعة جذابة .
كما أن الشعوب الأصلية لأمريكا الشمالية أي الهنود الحمر لم يشكلوا دولة في ذلك الجزء من الكرة الأرضية, وذلك راجع إلى كونهم يترحلون بكثرة, كما لم تكن لهم موارد قارة تساعدهم على الاستقرار .
 وزيادة على ذلك فأراضي أمريكا الشمالية كانت في أغلبها صحراء تصعب الزراعة فيها مما ساعد على عدم قيام أرستقراطية قوية في تلك القارة كما هي عليه في أوربا في ذلك الوقت بحكم أن الامتيازات الأرستقراطية تقوم على الأرض .
فكل هذه العوامل ساهمت بشكل كبير في إيجاد الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية بالإضافة إلى عوامل أخرى محددة في أصول الأمريكيين الإنجليز و أحوالهم الاجتماعية, وسيأتي عرضها في المطلبين القادمين.
هذا وتنبغي الإشارة إلى أن تركيز ألكسيس دي توكفيل على الأمريكيين الإنجليز دون غيرهم يرجع إلى كون المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية في أمريكا ظهرت في أول الأمر مع هؤلاء المهاجرين ثم انتقلت إلى الآخرين إلى أن عمت كل الاتحاد.
المطلب الأول :  أصول المجتمع الأمريكي
لقد أوصلت دراسة دي توكفيل للدمقراطية في أمريكا إلى حد البحث عن بداية نشأة المجتمع الأمريكي و أصوله, فحسب تعبير الكاتب أنه لكي نفهم الاتجاه الذي سارت عليه أمة من الأمم يجب الرجوع إلى نقطة بدايتها, وهذا ما لم يكن عسيرًا عليه في أمريكا لأن أمريكا البلد الوحيد الذي يمكن معرفة تاريخ نشأته بوضوح .
فلقد تأسست أمريكا من خلال استقرار بعض المهاجرين القادمين من أوروبا الذين كوَّنوا في أول الأمر مستعمرات تابعة لبلدانهم الأصلية, ولكن الكاتب ركز هنا على المهاجرين الإنجليز دون غيرهم من المهاجرين, وإن كانت لكل هؤلاء المهاجرين العناصر اللازمة لقيام الديمقراطية الكاملة المتمثلة في الشعور بالمساواة التي كانت من آثار الهجرة, وكانت أيضا نتيجة استحالة قيام أرستقراطية قوية بسبب طبيعة الأراضي التي تتسم بها أمريكا .
ولقد ميز الكاتب بين فيئتين الأمريكيين الإنجليز: أولاهما جالية انجليزية نزلت في فرجينيا سنة 1607م, وكانت لديهم فكرة أن مناجم الذهب و الفضة من مصادر الثروة القومية التي حرصت عليها هذه الفئة عند قدومها إلى أمريكا, وهي الفكرة كانت منتشرة في أوروبا في ذلك الوقت, وهي لا شك خاطئة حسب الكاتب , إذ أدت إلى افتقار الدول الأوروبية التي أخذت بها, وحاولت هذه المجموعة نقل هذه الفكرة إلى أمريكا, فكان هدفهم بذلك من الهجرة هو تحقيق الثروة, كما وصف الكاتب هؤلاء بكونهم قومًا مغامرين لا أخلاق لهم ولا موارد خاصة يعتمدون عليها, وقد وصلت إليهم فيما بعد, جماعاتٌ من الصناع و الزراع كانوا أحسن أخلاقا و أكثر انتظاما, ومع ذلك فإنهم لا يرتفعون عن مستوى الطبقات الدنيا في إنجلترا في شيء.
أما المجموعة الثانية فكانت تعرف بالمتطهرين وهم جماعة متدينة, وقد تحدث عنهم المؤلف فقال :”وكان هؤلاء المهاجرون , {الحجاج} كما يسمون أنفسهم بحق , من تلك الطائفة الإنجليزية التي أكسبتها كرامة مبادئها اسم المتطهرين (البيوريتانز) وليس التطهيرية مجرد مذهب ديني فحسب, فقد كانت تتفق في كثير من الوجوه مع أكثر النظريات الجمهورية والديمقراطية المطلقة … حدث هذا في سنة 1620, ومنذ ذلك الوقت ظلت الهجرة تتوالى لا ينقطع تيارها , فالأهواء الدينية و السياسية التي مزقت أوصال الإمبراطورية البريطانية طوال حكم الملك تشارلز الأول كله ظلت تدفع جماهير جددا من أهل الطائفة نفسها إلى شواطئ أمريكا في كل سنة من السنين”[1]
ولم يكن أمر خروج هذين الفئتين بموضع أسفٍ للحكومة الإنجليزية, بل كان مصدر سعادة بالنسبة إليها فقد خلصتها هجراتهم من عناصر شقاق و نزاع, إضافة إلى كونهم مصادر لثروات جديدة, ولذلك عملت على تشجيع هذه الهجرات ولم تكترث بالمصير الذي قد يواجهونه جراء هذه الهجرة.
فمع هؤلاء الذين استقروا في شمال أمريكا (نيوإنجلند) ستظهر الأفكار الرئيسية التي تقوم عليها النظرية الأمريكية الاجتماعية.
المطلب الثاني :أحوال الأمريكيين الإنجليز الاجتماعية
          توصف الأحوال الاجتماعية لدى المجتمع الأمريكي الإنجليزي بالديمقراطية، إلى حد أن المساواة بلغت شأنًا كبيراَ بين المهاجرين، وذلك منذ أن نشأت المستعمرات فيها, و هذا ينطبق بشكل كبير على المهاجرين في نيوإنجليد, وعكس ما عليه الأمر في  الجنوب الغربي (فلوريدا), إذ إن المهاجرين الذين استقروا في هذا الجزء من الولايات المتحدة كانوا من كبار الملاك الذين جعلوا من أنفسهم طبقة عالية ذات أفكار و أذواق خاصة بها, مما أدى إلى بروز أرستقراطية نسبية في جنوب غرب أمريكا غير موجودة في شمالها (نيو إنجلند), لكن لم يكتب لهذه الأرستقراطية النجاح بسبب اعتماد كبار الملاك على العبيد، و بالتالي لم يكن لهم نفوذ على باقي أفراد الشعب.
كما أنَّ لقانون الميراث تأثيرًاً كبيرًا على الأحوال الاجتماعية, فتغيير هذا القانون في عصر الثورة الأمريكية أسهم في خلق المساواة، و ذلك من خلال نتيجتين : الأولى هي تقسيم التركة بطريقة متساوية بين كلِّ الأبناء عكس ما كان في السابق، حيث كانت تنتقل كاملة إلى الابن الأكبر من جيل إلى جيل، فتحافظ الأسرة الأرستقراطية على الروابط العاطفية التي تربطها بالأرض، وتميزها عن غيرها من الطبقات, أما النتيجة الثانية فلها أثر على عقول الورثة، حيث تحرِّك فيهم الرغبة في بيع إرثهم لتحقيق الربح المادي, فحسب قول الكاتب :”يعمل القانونُ على تقسيم التركة بالتساوي بطريقتين : فبتأثيره في الأشياء يؤثر في الأشخاص أنفسهم, وبتأثيره في الأشخاص يؤثر في الأشياء, وبهاتين الوسيلتين كلتيهما ينجح في تقويض الأساس الذي تقوم عليه الملكية العقارية “.
وقد ظهرت نتائج هذا القانون فعلا فلم يبقَ للأرستقراطية وجودٌ قوي، و لم يتبقَ منها إلا بعضُ الأسر القليلة التي احتفظت بخصائصها المحافظة, ففي ولاية نيويورك التي كانت تضم عدداً كبيرًا من أسر كبار الملاك لم يتبقَ سوى أسرتين تفتخران بنسبهما و بألقابهما.
والمساواة لم تقتصر على الثروة فقط، بل تجاوزتها إلى التساوي في العلم, فالتعليم الابتدائي كان متوفراً لكل إنسان، غير أن المستوى التعليمي لدى أغلب الأمريكيين لا يصل إلى المستوى العالي بسبب انشغالهم بمزاولة المهن المختلفة .
يقول الكاتب :”الأمم تبذل جهودًا كبيرة للحصول على الحرية, و إن لم يحصلوا عليها أصابهم الفشل، و إنهم ليؤثرون الموت على أن يفقدوها” وانطلاقا من هذه العبارة خلص دي توكفيل إلى أن الحرية هي هم المجتمع الأمريكي، وأنهم يفضلون الموت على فقدانها، فهي تعتبر من أهم نقاط القوة في الديمقراطية الأمريكية,  والأمريكيون في نظر ديتوكفيل أمة محظوظة بسبب الإفلات من سلطة الرجل الواحد, فدستور 1787م حرص على عدم امتلاك رئيس الولايات سلطات مطلقة.
كما أن إقامة المساواة السياسية بين الناس حسب ألكسيس تتمثل في طريقتين : منح الحقوق لكل مواطن من المواطنين , أو عدم منح شيء منها لأحد .
المبحث الثاني : مبدأ السيادة في أمريكا وأحوالها المختلفة
يرى مؤلف الكتاب أن سيادة الشعب في أمريكا ليست بالمبدأ العقيم, ولا هو بالمستور الخفي, كما هو الحال في بعض الأمم, فقد أقرَّه العرف و أعلنته القوانين, و ينشر في أمريكا بحرية كاملة و يصل بدون عائق إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه من النتائج المترتبة عليه. ويضيف قائلا :”فإن كان ثمة بلد في العالم يستطيع المرءُ فيه أن يقدر مبدأ سيادة الشعب حق قدره, و يدرسه فيما يطبق عليه من شؤون المجتمع, ويتيسر له الحكم على ما فيه من أخطاء وما له من مزايا فهذا البلد هو أمريكا”, وهذا كلام يدل على انبهار كبير بالتجربة الأمريكية, وقد يكون صادقاً في العصر الذي ألف فيه الكتاب، لكنه ليس كذلك في كل العصور.
المطلب الأول : تطور الممارسة الديمقراطية للمجتمع الأمريكي
  يؤكد المؤلف ـ كما سبق ـ أن مبدأ سيادة الشعب يسيطر على المجتمع الأمريكي بأسره ، وأن الأمريكيين طبقوه حتى قبل قيامهم بالثورة، وأنه مبدأ فاعل وليس بالعقيم في هذا البلاد بعكس استعماله خارجها من قبل بعض المستبدين وأصحاب المصالح الشخصية، على أن الثورة الأمريكية طوَّرت هذا المبدأ ووسعت شروط الانتخاب بالتدريج.
ولم يكن باستطاعة هذا المبدأ أن يظهر في المستعمرات الإنجليزية في أمريكا منذ نشأتها لأنها كانت مضطرة للإذعان للدولة الأم ، وهو ما أدى إلى بقاء نوع من الارستقراطية في ثقافة وثروة بعض المناطق، ولم يكن جميع المواطنين يتمتعون بحقوق الانتخاب، ولم يكن جميع الموظفين منتخبين كذلك، وقد كان الانتخاب خاضعاً لشروط مالية باهظة في الجنوب على وجه الخصوص.
أما بعد اندلاع الثورة فقد صار مبدأ سيادة الشعب موضع مناصرة من جميع الطبقات ، وقامت معارك وانتصارات باسمه، حتى صار قانون القوانين الذي كتب للثورة الانتصار النهائي، وشرعت الأمة في تعديل شروط الانتخابات لتبدأ في إزالة القيود المفروضة عليها شيئا فشيئا, ومع كل توسع جديد في هذا التعديل تزداد قوة الديمقراطية و تزداد قوتها مع ازدياد قوتها.
 ويذكر المؤلف أن سيادة الشعب في العصر الذي كتب فيه هذا الكتاب قد تطورت وتخلصت من جميع الأساطير, بحيث كان الشعب كله أحيانا يسهم في القوانين كما هو الحال في أثينا, وأحيانا يقوم ممثلو الشعب المنتخبون بالتصويت العام نيابة عنه و تحت إشرافه.
المطلب الثاني : تطبيق مبدأ السيادة على الولايات
 يتضح من خلال دراسة الممارسة الديمقراطية للمجتمع الأمريكي لمبدأ سيادة الشعب، شكل الحكومة ووسائلها و العقبات التي قامت في سبيلها ومميزاتها, و من هذه الخصائص الملاحظة أن دستور الولايات المتحدة  يفصل بين الحكومة الفيدرالية و حكومة الولاية، وهو ما يقضي على المركزية ويعزز حرية الولايات ، فإحدى الحكومتين كما يقول الكاتب ” تضطلع بالواجبات العادية غير المحدودة, أما الحكومة الأخرى فعملها محصور في نطاق معين ولا تمارس سلطاتها غير العادية” وبالرغم من ذلك فإن هذا الدستور معقد لتكونه من نظامين اجتماعين أحدهما داخل الآخر، ويعود السبب إلى هذه الازدواجية المعقدة ، فلو حرص الأمريكيون على إلغاء المركزية دون أن يرتبطوا بالنظام الفيدرالي لما وقعوا في شراك التعقيد ولكسبوا ميزات اللامركزية ولم يقعوا في مساوئها، وربما كان اتساع رقعة القارة الأمريكية وارتفاع عدد سكانها قد أسهم في استمرارهم على هذا النمط الدستوري غير المرضي أحيانا.
وقد بدأ المؤلف دراسته بذكر أحوال وحدة الحكم المحلي, لأن نظام القرية موجود في كل الأمم, والإنسان هو الذي يقيم المَلكيَّات, وينشئ الجمهوريات، ولكن صعوبة إقرار استقلال وحدة الحكم المحلي تزداد بازدياد ثقافة أهليها, كما يقول الكاتب، وذلك أن الامتيازات التي حصلت عليها وحدات الحكم المحلي قد لا تجد من يحميها من اعتداء السلطات العليا عليها.
ولما كانت الواجبات العامة في وحدة الحكم المحلي كثيرة كان لابد من توزيعها على المنتخبين بحسب اختصاصاتهم، حيث تفرض قوانين الولاية عليهم واجبات معينة يؤدونها دون الرجوع إلى أي سلطة أعلى، فإذا أرادوا استحداث مشروع جديد ـ كإنشاء مدرسة مثلا ـ رجعوا إلى المصدر الذي يستمدون منه قوتهم، وهو في هذه الحالة جمعية الناخبين العامة التي يشرحون أمامها الضرورة التي دعتهم إلى إنشاء هذا المشروع والوسائل المعينة على إنشائه، والنفقات المطلوبة، والمكان المناسب للتنفيذ، فإذا وافقت الجمعية على المبدأ تؤخذ الأصوات على الضرائب اللازمة لتمويل المشروع ، وتتعهد وحدة الحكم المحلي بتنفيذ المشروع, و يمكن أيضا انعقاد الجمعية العامة إذا طلب منهم عشرة من المواطنين يريدون أن يعرضوا مشروعاً جديدًا. فالمواطن في أمريكا حسب دي توكفيل هو حر و سيد نفسه و مسؤول أمام الله وحده في كلِّ ما يتصل بشؤونه الخاصة.
إن استقلال البلديات في الولايات المتحدة يعد إذن نتيجة طبيعية من نتائج مبدأ سيادة الشعب هذا نفسه, والولاية هي التي تقرر الضرائب بطريقة أخذ الأصوات عليها, لكن وحدة الحكم المحلي تقوم بفرضها وجبايتها, من أجل تقديم خدمات عامة, ففي حين يتسلم جابي الدولة في فرنسا الضرائب المحلية, نجد في أمريكا أن الذي يتسلم ضرائب الولاية هو جابي وحدة الحكم المحلي وهذا أحد الاختلافات بينهما.
          ولبيان تأثير روح الديمقراطية في وجدان الكاتب نراه يوضح وحدات الحكم المحلي في نيو إنجلند فيقف عند ميزتين تستثيران اهتمام الناس في نظره هما الاستقلالية و السلطة, و العمل في هذا المجال ـ كما يقول ـ لا يحده شيء, كما أن رغبات الناس تميل إلى القوة و السلطان, فالوطنية لا تدوم في ظل أمة مقهورة على أمرها, ويعبر الكاتب عن العلاقة بين المواطن الأمريكي ووحدته المحلية فيقول إن كل مواطن نيو إنجلندي يتعلق بوحدته للحكم المحلي, لأنها مستقلة وحرة, وتكفل له المشاركة في شؤونها .
ويقول الكاتب إن وحدة الحكم المحلي أصغر من أن تضم مؤسسة قضائية, وبالتالي فأن المقاطعة هي النواة الأولى للشؤون القضائية, ففي كل مقاطعة قضاءٌ يتكون من محكمة و شريف و سجن لاعتقال المجرمين، كما أن المقاطعة تتولى تسيير بعض الشؤون التي تهم كل وحدات الحكم المحلي المنضوية تحتها, ورغم ذلك فلها سلطات محدودة واستثنائية.
          وفيما يخص الإدارة وصف الكاتب كونها غير مرئية, ففي أمريكا هناك قوانين مسطورة يشاهد تنفيذها كل يوم, فالذي يسهر على تنفيذ القوانين (خفي لا يرى), فموظفون في البلدية هم الذين ينفذون قوانين الولاية أو يراقبونها , ثم يوضح الكاتب أن تقوية السلطة المحلية غالبا ما يكون للتقليل من قوة السلطان العليا التي يقترح منها طريقتين: أولهما إضعاف السلطة العليا من حيث مبدؤها ذاته ، وذلك بحرمان الجماعة من العمل على الدفاع عن كيانها في أحوال معينة, كما هو في أروبا. أما الثانية  فبتوزيع ممارسة السلطة على أشخاص كثيرين, وبالاستكثار من الموظفين الذين يُعهد إلى كلِّ منهم بالقدر الضروري من السلطة الذي يمكنه من أداء واجبه, ولكن هذا التوزيع أبعد من أن يكون في ذاته فوضى. ويؤكد ألكسيس أنه لا يوجد بلد في العالم يتمتع القانون فيه بلغة مطلقة مثل أمريكا, ولا  يطبق القانون في أيدي كثيرة بمثل ما يوضع في أمريكا.
ويقف الكاتب باهتمام عند القول بأن الموظف المنتخب في أمريكا لا يتسنى عزله ولا يمكن ترقيته إلا بعد انتهاء مدته التي حددت له, فلا يخشى هذا الموظف المنتخب سطوة أحد سوى الذين انتخبوه، أما المحاكم فهي الواسطة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بين السلطة المركزية وبين الهيئات الإدارية, وهي وحدها التي تستطيع أن تجبر الموظفين الإداريين على احترام القانون, ولا بد من تظافر الإدارة والقضاء في تسيير أمور الولايات ، وفي هذا الصدد ركز الكاتب على نظام قضاة الصلح الذي قال إنه غير موجود في أوروبا, و قاضي الصلح هذا يكون وسطاً بين القاضي وبين الموظف المدني.
وكلما انحدرنا جنوبا قل نشاط العمل في وحدة الحكم المحلي, وكذلك موظفوها وحقوقها وواجباتها تقل, مع العلم أن سلطة الموظف المنتخب تزداد في حين تنقص سلطة الناخب, وبذلك تصبح روح الجماعات المحلية أقل تيقظاً و أقل نفوذاً, وكلما صعدنا نحو الشمال الغربي تزداد نشاطات وحدة الحكم المحلي بحكم أن السكان الذين استوطنوا الولايات الشمالية خرجوا من نيو إنجلند بعادات بلادهم الأم الإدارية، و أقاموها في البلد الذي يستقرون فيه.
وفيما يخص الولاية فهي تتكون من سلطتين, سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية, فالسلطة التشريعية تتوزع إلى مجلسين مجلس الشيوخ و مجلس النواب, ويعتبر مجلس الشيوخ بمثابة هيئة قضائية وتنفيذية, وينظر في القضايا السياسية و المدنية, ويضم عددًا قليلاً من الأعضاء, ولا يعتبر تقسيم السلطة التشريعية إلى قسمين خلق أرستقراطية وراثية, حيث لم يكن هدفهم أن يخلقوا من أحد القسمين حصنا للسلطة, على حين يمثل القسم الثاني مصالح الشعب, ولكن كان الهدف من هذا التقسيم هو الرقابة على الحركات السياسية, فضلا عن إيجاد محكمة استئناف لمراجعة القوانين و تعديلها, أما مجلس النواب فله وظيفة تشريعية فقط وقد يوجه التهم لبعض الموظفين أمام مجلس الشيوخ.
وتتركز السلطة التنفيذية في يد شخص يسمى الحاكم, ويعتبر الموظف الأعلى داخل الولاية و المستشار الرسمي , ويعمل على  التخفيف من الإسراف في مجال التشريع عن طريق حق الرفض بالفيتو, ويتجلى حضور الحاكم في الولاية على إشرافه على القوات المسلحة في الولاية وقيادته لها ، وقد أدى هذا التعدد في مجالس الشيوخ والنواب في إحدى وخمسين ولاية أمريكية إلى عدد كبير من الموظفين المنتخبين وغير المنتخبين الذين يؤدون أعمالا متشابهة في كل الولايات ، ولولا اتساع رقعة القارة واعتبار ولاياتها دولا تفوق بمواردها وعدد سكانها الكثير من دول العالم لكان هذا النظام طامة كبرى على الاقتصاد والوفاق والتعايش الوطني ، وذلك عكس اللامركزية غير الضيقة التي تستفيد من مزايا الاستقلال والاندماج في الوقت نفسه.
وقد لعبت اللامركزية في أمريكا دورًا أساسيًا في تنامي الديموقراطية عن طريق إيجاد مكان تمارس فيه الحرية ومبدأ سيادة الشعب, حيث ركز الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية على تفتيت السلطة حتى لا تتركز في يد واحدة، و الإفراط في اللامركزية مما أدى إلى تنامي الحرية المحلية .
الدروس المنبثقة عن النموذج الأمريكية :
 كان توكفيل يخاطب الأوروبيين وبالذات الفرنسيين، يدعوهم لدفن الماضي، وإدراك الفرص التي طرحتها السياسة الاقتصادية الأوروبية على السياسة والمجتمع المدني على حد سواء, كان ضعف الدولة في أمريكا أول شيء يستوقف دي توكفيل. فجاء تفسيره ليُرْسِيَ أول الميزات بين أمريكا بأن مجتمعها قوي، ودولتها ضعيفة، وأوروبا حيث الدولة القوية، والمجتمع الضعيف، وهو التمييز الذي ترك تأثيراً فاعلاً في التنظير المعاصر.
ومن خصائص أمريكا الديمقراطية قلة المدن الكبيرة وما ترتب عليها من تزايد أهمية المجالس المحلية، والغياب النسبي للبيروقراطية(المكتبية أو الإدارية )، وهو غياب مقرون بتقاليد اللامركزية، والعزلة الجغرافية، كل هذه العوامل، لا سيما عندما تُضَمُ الى المساواة الاجتماعية الواسعة، وثقافة الاعتماد على الذات, تؤدي إلي خلق مجتمع ديمقراطي قوي قائم على الحرية و المساواة, إضافة إلى تدخل الناس في الشؤون العامة، والتصويت الحر على الضرائب، ومسؤولية ممثلي السلطة، والحرية الشخصية، والقضاء المستند إلى هيئة المحلفين.
إن أسئلة دي توكفيل تتمثل في كيفية جعل الحرية والمساواة ممكنتين معا, فالمساواة الاجتماعية في رأيه تعني عدم وجود اختلافات في الشروط الوراثية, وكذلك في كل  الأشغال وكل المهن و كل المناصب,  وكل الكرامات المتاحة للجميع .وقد وجدت هذه الميزة في المجتمع الأمريكي الذي احتفظ بالقيم الأخلاقية لمؤسيسه من المهاجرين الأوائل, و كانت الأسباب الحقيقية التي تتمتع بها الديمقراطية في أمريكا, هي القوانين والعادات و التقاليد و الاعتقادات التي يصعب دونها الحصول على الحرية ، وتكتسب القوانين احترامها من كونها موضوعة من طرف الشعب وليس مفروضة عليه. وقد كانت الثقةُ متبادلةً بين الطبقات، لكون حق كل منها محفوظ بالمساواة أمام القانون.
ومن الملاحظات على المجتمع في تلك الفترة قلة اهتمامه بالعلوم العليا مقارنة باهتمامه بتعليم أبنائه الحرف التي تدر عليهم المال أكثر من اهتمامه بتعليمهم في الجامعات.
هذه جوانب من ملامح الحياة السياسية الأمريكية بعيون كاتب فرنسي معاصر لتأسيس الدولة الأمريكية ومنبهر بتجربتها، وليس ما قاله مطابق للسياسات الأمريكية اللاحقة، فقد نشأت اللوبيات المؤثرة على الرأي العام، وقويت الدولة المركزية بسبب قوتهم، ولكن التجربة الأمريكية تظل مخزنا لتجارب الشعوب الباحثة عن النجاح دون إغفال العيوب التي صاحبتها منذ انطلاق ثورتها، وجعلتها أحيانا في خدمة لوبيات ظالمة كاللوبي الصهيوني، فأفقدتها منظور العدالة جزئيا وهي الحريصة على شعار الحرية والعدالة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق