الفرق والمعاودة . جيل دولوز

الفرق والمعاودة

جيل دولوز

طوى للنشر والتوزيع  -  لندن  2015   |   585  صفحة   |   10.15  م . ب







يبدو لنا أن تاريخ الفلسفة يجب أن يلعب دوراً أشبه ما يكون بالدور الذي يلعبه التلصيق في لوحة. إن تاريخ الفلسفة هو إعادة إنتاج الفلسفة ذاتها. هذا التأكيد الذي نجده في الصفحات الأولى من كتاب جيل دولوز «الفرق والمعاودة» يضعنا رأساً في صلب التعاطي الدولوزي مع دلالات الزمن والتاريخ والإبداع، ويقطع الطريق على الذين يؤاخذون دولوز إما على منحاه التلفيقي الذي همه الاكتفاء بالتعليق وإما نهجه التعسفي الذي يجبر الفلاسفة الذين درسهم على أن يكونوا دولوزيين. فالذين يفهمون التاريخ بصفته تتابعاً خطياً ويطبّقون ذلك على الفلسفة وتاريخها، يخطئون الفلسفة والتاريخ معاً، وذلك لأن الفلسفة ذاتها لا تُختزل في تاريخها لأنها لا تكف عن الانفصال عنه لتبدع مفاهيم جديدة. ولأن تاريخها ليس له نفسه وتيرة تاريخ الناس.
المعاودة والفرق
المعاودة ليست العمومية، علينا تمييز المعاودة عن العمومية بكيفيات عدة. وكل صيغة تؤدي إلى الخلط بينهما هي صيغة فظة: كذا عندما نقول أن شيئين يتشابهان كقطرتي ماء؛ أو عندما نماهي بين لا علم إلا بالعام، ولا علم إلا بما يتكرر، الفرق فرق بالطبيعة بين المعاودة والمشابهة حتى وإن بلغت المشابهة قصاراها.
ويقول دولوز: «تتكشف العمومية عن نظامين كبيرين: النظام الكيفي للمشابهات والنظام الكمي للتكافؤات. الدورات والتساويات هي رموزهما». ويضيف «لكن على أي حال، تعبّر العمومية عن وجهة نظر يمكن وفقها مبادلة حد بحد آخر واستبدال حد بحد آخر». إن مبادلة أو استبدال الجزئيات هو الذي يحدد سيرتنا الموافقة للعمومية، لأجل ذلك يعتقد دولوز، لم يكن الامبيريقيون على خطأ في تقديم الفكرة العامة على أنها فكرة جزئية في حد ذاتها، شرط أن نضيف إليها إحساساً بالقدرة على تعويضها بأي فكرة جزئية أخرى تشبهها من جهة اللفظ، على النقيض من ذلك، نحن نرى جيداً أن المعاودة ليست ضرورية ومشروعة إلا بالنسبة إلى ما لا يمكن تعويضه. المعاودة كسيرة وكوجهة نظر تخص فرادة من المتعذر مبادلتها واستبدالها.
ومع ذلك حسب رأي دولوز يبدو أنه من العسير نفي كل علاقة بين المعاودة والقانون من وجهة نظر التجريب العلمي ذاته. لكن علينا أن نتساءل: عن الظروف التي يؤمن فيها التجريب معاودة. ظاهرات الطبيعة تحدث في الهواء الطلق، وكل استدلال مباشر هو ممكن في دورات شاسعة من المشابهة. إنه بهذا المعنى كل شيء يؤثر على كل شيء وكل شيء يشبه كل شيء مشابهة المتنوع لذاته.
ويرى دولوز أن ثمة قوة مشتركة بين فريدريك نيتشه وكيركيغارد، ويتوجب أن نضيف إليهما بيغي لتشكيل ثلاثي الراعي والمسيح الدجال والكاثوليكي، كل واحد من الثلاثة، وعلى طريقته، لم يجعل من المعاودة اقتداراً خاصاً باللغة وبالفكر، انفعالاً وطبابة قائمة فحسب، بل المقولة الأساسية لفلسفة المستقبل، فكل واحد منهم يرافقه إنجيل وكذلك مسرح وتصور للمسرح وشخصية بارزة في هذا المسرح بوصفها بطل المعاودة: أيوب، ابراهيم، ديونيزوس زرادشت، جان دارك كليو. ما يفصل بينهم مهم، بيّن ومعروف تماماً. لكن يقول دولوز: «لا شيء سيمحو هذا الالتقاء المدهش حول فكر للفرق: إنهم يعارضون كل أشكال العمومية بالفرق. وكلمة معاودة، هم لا يستخدمونها بكيفية مجازية بل لهم على العكس من ذلك كيفية معينة في استخدامها حرفياً وفي إدخالها إلى الأسلوب. يمكننا ويتوجب علينا أن نعدد أولاً القضايا الأساسية التي تعيّن بينهم من توافق».
إن مواجهة المعاودة ليس لعموميات العادة فحسب وإنما لخصوصيات الذاكرة، إذ لعلها العادة هي التي تتوصل إلى استخراج شيء ما جديد من معاودة وقع تأملها من الخارج. في العادة حسب اعتقاد دولوز نحن لا نعمل إلا بشرط أن يكون فينا أنا صغيرة تتأمل: إنه هو الذي يستخرج الجديد أي العام من المعاودة الكاذبة للحالات الخاصة ـ والذاكرة لعلها تعثر من جديد على الخواص المنصهرة في العمومية ـ هذه الحركات السيكولوجية «غير ذات أهمية؛ فهي تمحي عند نيتشه وعند كيركغارد قدّام المعاودة الموضوعية كاذبة مضاعفة للعادة وللذاكرة، ولهذا السبب المعاودة هي فكر المستقبل؛ إنها تقابل المقولة القديمة للتذكر والمقولة الحديثة للتطبع»
فعندما يقدم نيتشه العود الأبدي بوصفه التعبير المباشر عن إرادة القوة فإن هذه الإرادة لا تعني البتة أن تريد القوة، وإنما على العكس من ذلك، أيما يكن ما نريد، علينا أن نرفع ما نريد إلى قوة لا نهائية أي أن نستخرج منه الشكل الأرقى بفضل العملية الانتقائية للفكر في العود الأبدي ذاته.. الشكل الأرقى لكل ما هو كائن، هي ذي الهوية المباشرة للعود الابدي وللانسان الارقى.
الوعي والمعاودة
يؤكد دولوز ان الوعي يقيم بين التصور والأنا علاقة أعمق بكثير من تلك التي تظهر في عبارة «لدي تصور» انه يعزو التصور إلى الأنا عزوه إلى ملكة حرة لا تنحبس في اي من نتاجاتها وانما بالنسبة اليها كل نتاج انما وقع التفكير به والتعرف عليه بصفته ماضياً ومناسبة لتغيير محدد في الحسب الباطن. ويقول: «عندما يغيب وعي المعرفة أو اعداد التذكير فان المعرفة كما هي في ذاتها لن تكون غير تكرير لموضوعها: إنها محركة اي مكرورة، منهمكة في الفعل عوض ان تكون معروفة». تبدو المعاودة هنا بصفتها لا وعي المفهوم الحر، لا وعي المعرفة أو التذكر، لا وعي التصور. وإنه يعود إلى سيغموند فرويد كونه عين العقل الطبيعي لمثل هذا التجمد، الكبت والمقاومة التي تجعل من المعاودة ذاتها ارغاماً حقيقياً وإكراهاً، ها هي اذن حالة تجمد ثالثة تخص هذه المرة مفاهيم الحرية.
ان المعاودة من منظار دولوز تظهر دائماً مرتين، مرة في المصير المأسوي والأخرى في الخاصية الهزلية.
التطورات وهوية الذات
التصور بترك العالم المثبت للفرق يفلت من بين يديه، ليس للتصور غير مركز واحد، منظور وحيد ومائل، وبذلك ليس له الا عمق كاذب؛ «إنه يوسط كل شيء، لكنه لا يثبت ولا يحرك شيئاً»، الحركة من جهتها تنطوي على كثرة من المراكز، على تراكب للمنظورات، على تشابك لزوايا النظر، على تماهي لحظات تشوه التصور ماهوياً. لوحة أو منحوتة هما سلفا هؤلاء «المشوهون» الذين يجبروننا على احداث الحركة، اي على تركيب رؤية سافّة ورؤية من عل أو على الصعود والنزول في المكان بقدر ما تتقدم، ويتساءل دولوز: «هل تكفي مضاعفة التصورات للحصول على مثل هذه النتيجة؟ التصور اللانهائي يتضمن تحديداً عدداً لامتناهياً من التصورات، اما باتاحته كل زوايا النظر حول نفس الموضوع أو نفس العالم، واما بجعله من كل اللحظات خصائص لنفس الأنا، لكنه يحافظ بذلك على مركز وحيد يستقبل كل المراكز الأخرى ويمثلها، بصفته وحده سلسلة ترتب وتنظم بشكل نهائي كل الحدود وعلاقاتها».
ذلك ان التصور اللانهائي غير قابل للانفصال عن قانون يجعله ممكناً. إذاً ليس بمضاعفة التصورات وزوايا النظر تصل إلى المباشر المعرف بصفته تحتصوّري، على العكس من ذلك يقول دولوز: «انه مسبقا كل تصور مركب هو الذي ينبغي تشويهه وتحويل مساره واقتلاعه في مركزه. ينبغي ان تكون كل زاوية نظر هي ذاتها الشيء أو أن ينتمي الشيء إلى زاوية النظر»، ينبغي اذا ان لا يكون الشيء اي شيء مطابق بل ان يكون مقطعاً في فرق تتلاشى فيه هوية الموضوع المرئي كما هوية الذات الرائية، ينبغي ان يصبح الفرق هو العنصر والوحدة القصوى، ان يحيل بالتالي إلى فروق أخرى لا توحده ابداً بل تفرقه.
نقد التصور وأمّية المتناهي واللامتناهي
ما دام الفرق خاضعاً لمتطلبات التصور، فانه ليس متفكراً فيه في حد ذاته ولا يمكنه ان يكون كذلك. ويطرح دولوز سؤالاً: «هل كان دائماً خاضعاً لتلك المتطلبات ولأية اسباب؟ يجب تفحصه عن قرب. لكن يظهر ان المتنافرات المحض اما انها تشكل الماوراء العلوي لذهن رباني لا يطاله فكرنا التصوري، واما انها تشكل الماتحت الجهنمي لمحيط تباين يتعذر علينا سبر اغواره». وعلى أية حال، الفرق في حد ذاته يبدو انه يقصي كل علاقة بين المغاير والمغاير، علاقة هي التي ستجعله قابلا للتعقل، يبدو انه لن يصير كذلك الا وهو مروض اي خاضع للطوق الرباعي للتصور: الهوية في المفهوم، التقابل في المحمول، المماثلة في الحكم، والمشابهة في الادراك. ويرى دولوز انه اذا كان ثمة عالم كلاسيكي للتصوّر مثلما اوضح ميشال فوكو ذلك جيداً، فانه يتحدد بهذه الأبعاد الأربعة التي تجوبه وتنظمه، انها الجذور الأربعة لمبدأ العلة.
لعل الجهد الأكبر للفلسفة قد تمثل في جعل التصور لامتناهيا (إنشائياً)، فالأمر يتعلق ببسط التصور حتى اكبر واصغر ما في الفرق؛ وبنظر دولوز: باعطاء منظور مؤكد للتصور اي بابتداع تقنيات ثيولوجية وعلمية واستطيقية تمكنه من ادماج عمق الفرق في ذاته؛ وبالعمل على ان يستولي التصور على الغامض؛ وعلى ان يتضمن تلاشي الفرق الدقيق وتجزئة الفرق الكبير، وعلى ان يستأثر بقدرة الانذهال والانتشاء والقسوة وحتى الموت، «بايجاز، يتعلق الأمر بجعل القليل من دم ديونيزوس يسري في الأوردة الضوئية لأبولون، هذا الجهد قد خالط دائماً عالم التصور». لكن هذا الجهد كان بلغ أوجه في لحظتين مع ليبينتز ومع هيغل، في الحالة الأولى: استولى التصور على اللانهائي لأن تقنية اللامتناهي في الصفر تحتضن اصغر فرق وتلاشيه؛ وفي الحالة الثانية لأن تقنية اللامتناهي في الكبر تحتضن اكبر فرق وتمزقه. والاثنان متفقان لأن الاشكال الهيغلي هو ايضا اشكال التلاشي، والاشكال الليبنتزي هو ايضا اشكال التمزق. ويقول دولوز في هذا الصدد: «ان التقنية الهيغلية كائنة في حركة التناقض. انها تتمثل في ادراج العرضي في الماهية وفي الاستيلاء على اللانهائي بأسلحة هوية تركيبية متناهية. التقنية الليبنتيزية كائنة في حركة علينا ان نسميها لاتماكناً؛ انها تتمثل في بناء الماهية انطلاقاً من العرضي وفي الاستيلاء على المتناهي بواسطة الهوية التحليلية للامتناهي».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق