الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ - تأليف : عطيات أبو السعود

الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
تأليف : عطيات أبو السعود
منشأة المعارف - الإسكندرية  1997  |  685  صفحة  |  14.35  م . ب
إن المقولة المحورية لمجمل فكر بلوخ هي مقولة الأمل. والأمل الحكيم الذي عرفه اللاهوت القروسطي يصبح عنده مفهوماً ماركسياً. فالأمل بالنسبة لبلوخ هو التحرق إلى المستقبل، الجديد، اليوتوبيا، مالم يوجد بعد، الميل إلى إمكانية غير واعية بعد أو لم يتم التثبت منها بعد. وبالنسبة له، فإن أفق المستقبل وحده، كما تفهمه الماركسية، إنما يقدم للواقع بعده الحقيقي. وعلم ماركس يستضيء بهذا الأفق، فهو لا يزعم الحياد، بل هو مشحون بما يسميه بلوخ في عمله الأخير (الخبرة الحياتية، 1975) بالانحياز الأحمر، الانحياز إلى جانب التحرر، انحياز طبقة، هي البروليتاريا الثورية، التي لا حاجة لديها إلى كذب أيديولوجي.
وفي "مبدأ الأمل"، وهو عملٌ ضخم في ثلاثة مجلدات، يحلل بلوخ (ويرد الاعتبار إلى) ليس فقط اليوتوبيات الاجتماعية منذ صولون الغابر وأفلاطون إلى فورييه وويليام موريس، وإنما أيضاً اليوتوبيات التقنية والجغرافية والمعمارية والطبية والفنية. فهو يشير إلى التطور الذي حدث، على مدار العصور وعبر الثقافات، لمشاهد الرغبة، ولصور الرغبة ولأشكال الأمل ولتخيلات عالمٍ أفضل ولأشكال ملموسة للوعي النبيء بما سوف يجيء. وبحساسيته الفائقة، يكشف علامات هذا الوعي في الأساطير وفي السيمياء، وفي خروج موسى، وفي موسيقى بتهوفن، وفي رسم جوجان، وفي "دون كيشوت" وفي "فاوست"، وفي النضال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات، وفي حركة تحرر المرأة وفي ثورة أكتوبر. ويوضح بلوخ في مقدمة الكتاب معنى مسعاه: "منذ ماركس، أصبح من المستحيل على كل بحث عن الحقيقة وعلى كل قرار واقعي الاستغناء عن مضامين الأمل الذاتية والموضوعية في العالم، حتى لا يصبح عرضة لأن يغرق في التفاهة أو أن يقود إلى طريق مسدود. إن الفلسفة سوف تملك وعي الغد، الانحياز إلى المستقبل، معرفة الأمل، أو أنها لن تملك بعد أية معرفة على الإطلاق". وهو يستشهد، في سرور أريب، بتلك الفقرة جد المنسية عن الحلم، والتي أشار إليها كاتب ماركسي لا يكاد يشك أحد في صرامته المادية: " إذا كان الإنسان محروماً من كل قدرة على الحلم، إذا لم يك بوسعه من وقتٍ لآخر أن يستبق وأن يتصور ذهنياً، في صورة كاملة وناجزة، النتاج الذي لا تفعل أصابعه غير البدء في تشكيله، فلن يكون بوسعي على الإطلاق أن أتصور حافزاً آخر لحث الإنسان على تولي وإنجاز عمل مسهب ودؤوب في مجال الفن والعلم والسعي العملي"
إن الماركسية هي في هذا المنظور محصلة حلم قديم يجد أخيراً الشروط اللازمة لتحقيقه. والفصل الأخير لكتاب "مبدأ الأمل" إنما يحمل تحديداً هذا العنوان: "ماركس والإنسانية: إهاب الأمل". وفكرته الأساسية هي الفكرة التالية: "إن العقل لا يمكنه الازدهار دون الحلم، والحلم لا يمكنه النطق دون العقل، والاثنان يجدان وحدتهما في الماركسية – فأي علم آخر لا يملك مستقبلاً وأي مستقبل آخر لا يملك علماً".
والرأسمالية، بالنسبة لبلوخ، إنما تمثل أعلى شكل لنزع الطابع الإنساني، للاغتراب والتشيؤ، بقدر ما أنها تختزل الجميع – البشر والأشياء على حدٍ سواء – إلى حالة سلعة. وعبر سلاح نضال الطبقات، تريد الماركسية إلغاء رأس المال ومن ثم إنجاز أنسنة المجتمع – وهي تتوجه بادئ ذي بدء إلى المستغلين، لكن غايتها قادرة على اجتذاب جميع أولئك الذين يعانون في ظل الرأسمالية، جميع أولئك الذين يمكنهم التعرف على أنفسهم في صيحة الحرب التي أطلقها الديموقراطي الألماني الثوري جورج بوخنر: "الحرب على القصور، السلم للأكواخ". إن المعركة الاشتراكية تتطلب في آن واحد الحلم والحماس وصفاء الفكر، والماركسية تملك القدرة على أن توحد في مسعاها النظري والعملي بين التحليل الأكثر صرامة والحلم الأكثر جموحاً – وهي تشير إلى السبيل الذي يمكن عبره للعصر الذهبي القديم أن يصبح يوتوبيا المستقبل الملموسة: الثورة البروليتارية.
وعمل إرنست بلوخ، إذ يرد إلى الماركسية هذا البعد الذي لا غنى عنه، هذا المكون الرئيسي الذي يمثله الحلم، الخيال، الأمل، اليوتوبيا، لا يقدم مجرد ترياقٍ شافٍ من الأفق البائس والمحدود والبليد الذي تعرضه الأيديولوجيات الإصلاحية (الستالينية أو الاشتراكية – الديموقراطية) بل يقدم أيضاً مساهمة رئيسية إلى استرداد طاقة الماركسية النقدية والثورية.
والواقع أن عمل بلوخ يعتبر ثرياً ومتنوعاً بشكل غير عادي. فهو يشمل كتابات سياسية – ثقافية (تراث عصرنا) 1935، وأعمالاً فلسفية كلاسيكية  (ابن سينا واليسار الأرسطي)  1952، (الذات والموضوع عند هيجل) 1951، (الحق الطبيعي والكرامة الإنسانية) 1961، (فلسفة الرينيسانس) 1972، ودراسات حول تاريخ الدين (الإلحاد في المسيحية) 1968، لكن أعماله الرئيسية الكبرى مثل (روح اليوتوبيا) 1918, و (توماس مونزر)  1921، و (مبدأ الأمل) (1954-1959) هي في آن واحد فلسفية ودينية وسياسية وثقافية...
 #مكتبة_التنوير
#فلسفة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدخل إلى علم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) . عيسى الشماس

بين الدين والعلم .. تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى . أندرو ديكسون وايت

نهاية الحداثة .. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة . جياني فاتيمو

سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر - تأليف : إكرام عدنني

العرب ونظريات العقد الاجتماعي ( بحث ) . أحمد طريبق